أحدث الأخبار
الجمعة 22 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
ما قاله شعراءٌ ميّتون…!!
بقلم : سهيل كيوان ... 14.08.2020

ماذا سيقول شعراء راحلون في ما حدث لأم «الشرائع»! أم الشرائع هو واحد من أسماء بيروت العديدة، وذلك أنه أنشئ فيها أول معهد للقانون في العصر الروماني. فتأملوا كيف فُقدت الشريعة في أم الشرائع، فلم يبق سوى شريعة الأنياب والحراب.
سيتأخر درويش في إبداع قصيدته، لأن عليه تجاوز ما كتبه وصار على كل لسان، «قلنا لبيروت القصيدة كلها، قلعتنا الأخيرة، دمعتنا الأخيرة، نجمتنا الأخيرة، خيمتنا الأخيرة، قصّتُنا، غصّتُنا، صورتُنا، سورتُنا، بيروت لا، بيروت كلا، بيروت منتصفُ اللغة، بيروت ما قال الفتى لفتاته، ومضَةُ شهوتين!» فماذا يمكن أن يجترح من مشهد بيروت وقد وصفها بهيروشيما في مديح الظل العالي، «مليون انفجار في المدينة هيروشيما هيروشيما».
كيف كان سيصف إعصار النار الذي دفن حقبة من تاريخ بيروت في الرمال والملح والإسمنت.
هل سيقول: وأنت تدفن قتلاك، لا تنس من لا قبور لهم!
كيف كان سيمزج بين خيوط الدم في بيروت والقمر على بعلبك، مرّة أخرى؟
كيف كان سيصف أولئك الذين يمثّلون في جثة «المدينة الإلهة»؟ بعد وصفه لصبرا، والفاشي يقطع ثدييها؟
أين كان سيتلو ملحمة المرفأ وأمام أي جمهور؟ في رام الله، أم في قصر الثقافة في تونس، أم في قاعة (كريغ) في كرمل حيفا، التي نادته يومًا وقالت: تعال يا ولدي.. انشد هنا آخر مزاميرك، وقدّم التعازي لسليمان الملك باحتراق أرز هيكله القادم.
كيف كان الدكتور نبيل طنّوس، ابن مدينة سخنين المتخصص في ترجمة درويش، سيترجم قصيدة المرفأ، إلى العبرية، وكيف سيختار الكلمات الدّقيقة دون خيانة للنّص.
سوف يتوسل قلبه بأن يمهله أسبوعًا آخر كي ينجز قصيدته الأخيرة، سيحاول أن يقول ما لم يقله بعد، لكن قلبه سيخونه وسيموت، وسيدفن من جديد في المكان ذاته، وهذه المرة، في جنازة أكبر من الأولى رغم محاذير الكورونا.
أما نزار قباني، فسوف يتقيأ قبل أن يشرع في كتابة قصيدته، سوف يحاول أن يراجع هجائيات جرير والفرزدق وبشار بن برد، سوف يشتم كثيرًا قبل أن يبدأ بنظم القصيدة، ولكن شتائمه ستخرج شعرًا، الشتائم في بيروت تشبه إلى حد كبير الشتائم في فلسطين، التي تركّز على عورة الأخت والأم، وتصفها بشتى الأوصاف، نزار سوف يلوم البيروتيات لأنهن يشتمن عورات نساء مثلهن، وسيشير بسبابته إلى صدور الجنرالات وعمائم الشيوخ ولحى وشوارب الزعامات التي يجب أن تشتم.
ولكنه سيعترف بأنه تعب من هجاء العرب!
بماذا أهجوهم يا بلقيس! فهجائي لهم مديح!
لن أكون أوروبيًا بسبب لون شَعري، ولا يابانيًا لأنني أتناول السّوشي، ولا صينيًا لأنني أحفظ بعض نصوص (تسو) وأستعمل هاتف هاواوي، أنا أهجو نفسي عندما أهجو العرب.
سيحاول أن يكون هذه المرة أبعد من هجاء مُكرّر، سيكون رثاء أمة عريقة داس عنقها جنرالات لم يخوضوا في معاركهم إلا في لحم ودماء العرب! فيا للعجب، من أين للذباب والبعوض كل هذه الرتب؟
سيرثي أمةً احتضنت كل شعوب الأرض بين ذراعيها وأرضعتها، ولكنها تسقي أبناءها نارًا وصديدًا.
سيعلن نزار رفضه للتطبيع مع العدو الذي أفسد كحل رموش بيروت، وسيطالب العدو بترك شذا زهرة واحدة لبيروت، وسيعلن أن العدو ليس فقط ذلك الذي يحتل فلسطين ويطرد أهلها… بل هو أيضًا ذلك الذي يقتل عصفورًا في سماء العرب، خرج عن حدود طائفته أو عشيرته.
سيغضب ويكسر مرآة صالون بيته، يتصاعد الحقد إلى حلقه، وسيعتذر من أبي جهل ومن أبي لهب، ويعدهم بأن لا يذكرهم في شعره بعد اليوم.
بلقيس تنتظر منحةً، جرافة أوروربية عملاقة، لترفع عن صدرها مليون طن من القذارات.
سيخفي وجهه بالوسادة ويقول: الحمد لله أنني رحلت قبل هذا، فما زال في أعماقي يقين خفي بأن العرب لن يموتوا، رغم إعلاني عن وفاتهم.
أما سعيد عقل، فسيبحث عن لغة جديدة، بعدما هجر العربية الفصيحة وتبرّأ من أهلها ومدح الجيش «الإسرائيلياني» في غزوه لبيروت وبعد صبرا وشاتيلا، هذه المرة سيعلن براءته ليس من العرب فقط، ولا من لغتهم، سيتبرأ من الفينيقيين وسلالتهم، فهم أيضًا شركاء في اغتصاب (بيريتوس) وسيعترف بأنه لا ذنب للفلسطينيين بكل هذه الخساسة واللؤم، وبكل هذا الجشع، وبهذه التفاهة والصفاقة والبلاهة والتعصّب، وسيهتف بغضب، نحن هكذا، نحن الذين طالما لُكنا لحم بعضنا بعضًا منذ قرون، لبنان صار مطيّة لمن يدفع، سواء بالبترول أو بالنيترات، أو من خلال مساعدات على شكل معدات عسكرية يستعملها الجيش.
وسيحتار أمجد ناصر في أي جنس أدبي يصف جوربي السيّدة الأنيقة التي مرت قبل لحظات أمام المقهى، في اتجاه المرفأ قبل الانفجار، سقطت زجاجات النبيذ عن الرفوف، ساح دمها واختلط بنبيذ النادلة التي كان يشك من لهجتها في أنها سورية، ولم ينتبه بأن وجهه لم يبق كما رآه قبل دقائق عندما دخل الحمّام ليمشّط شعره.
وسيقول سميح القاسم: قلت لكم إن أفق الطائفية محدود، وإنها مهما سمَت، يبقى سقفها منخفضًا، وسوف يرتطم رأسها بالسّقف عندما تحاول الوقوف!
وسوف أقول له: هناك من يراقب ويضحك، ولغاية ما، سمح في هذه الأيام للفلسطينيين من الضفة الغربية بأن يعبروا الحواجز والجدران العازلة بلا أي عوائق، كي يزوروا بحر يافا وحيفا وعكا حتى رأس الناقورة، أعرض شاشة الهاتف أمام عينيه ليرى عجوزًا فلسطينية من أحد مخيمات الضفة الغربية ترى البحر حقيقة لأول مرة في حياتها، تبلّل قدميها وتغمر ثوبها ولباسها ورأسها في البحر.
يتأملها للحظات ويقول: من لباسها هذا، يجب أن ينسجوا عماماتهم ونياشينهم ورايات طوائفهم، وسوف أؤكد قوله بعبارة: كِلّن يعني كِلّن، وسوف يردّ ببديهته السريعة: كِلّن وأنت أولهن.. ولا أخو ش…. منهم بريء.

1