من انفلونزا الخنازير" و انفلونزا الطيور و الكوليرا الى " كورونا", إن الأزمات التي يعاني منها عالمنا اليوم هي أزمات طال أمدها وامتد أثرها ليطال عددا كبيرا من الضحايا, فايروسات وأوبئة تقتل وتهتك وتعتبر من أسوأ النوازل التي تحل بمجتمع من المجتمعات لأنها تتكبد خسائر كبيرة من الأرواح, ولكن ليس هناك فايروس أخطر على الانسانية من جوع الفقراء وحرمانهم من أبسط حقوقهم, لا شك أن الفقر يعد من الظواهر الإنسانية العالمية المعقدة التي تشتكي من آفتها الكثير من المجتمعات البشرية وأصبح يشكل وباء خطير وأزمة حالكة, ولكن ليس المقصود هنا فقر المال بل فقر الرحمة والإنسانية, فالجوع لا يغطيه الإعلام ولا تخاف منه البشرية لأنه لا يشكل خطر على الاغنياء ودولتهم رغم أنه ينتشر ويتمدد على مدار الساعة, لعله لم يأتِ على البشرية حين من الدهر اجتمعت فيه الإنسانية كلها على كلمة واحدة وأمر واحد وهو الخوف من هذا المخلوق الصغير جدا والذي لا يرى الا بالعين المجردة، والذي تبدّدت فيه فوراق الدين والجنس والقومية والعرق واللغة، واجتمعت شعوب العالم كلها على هدف واحد مثلما يحدث الأن.
بتنا نستيقظ يوميا على وباء يهدد البشرية بالفناء وأناس تصاب بالهلع والجنون بعضهم يلجأ للدعاء والصلاة والبعض الآخر يلجأ الى أسلوب الاستهزاء والضحك والبعض الاخر يردد المكتوب مكتوب, فيروس كورونا عدد الوفيات أقل من ألفي إنسان في غضون شهرين ,بينما عدد وفيات الأطفال سنويا بسبب الجوع 3,1 مليون تقريبا يموت 8,6 طفل بسبب الجوع! أي أن فيروس الجوع 8500 يقتل طفل كل يوم واللقاح موجود يسمي الغذاء, وذلك يتضح جليا بأن شبح الفقر أضحي من أكثر المشكلات التي تؤرق سكان العالم.
كورونا, هذا الوباء التنفسي الذي انتشر انطلاقاً من الصين، يمكن أن يحمل معه بعض الدروس القيّمة, فيروس كورونا يعلمنا يوميا دروس وعبر نستطيع ربما الاستفادة من دروسها على الأقل اننا ننظر للعالم نظرة مختلفة ونعيش برؤية وبمفهوم جديد, علمتنا الكورونا و تعلمنا كل يوم درس جديد منها أن العالم عبارة عن قرية صغيرة فمخلوق ضئيل لا يرى بالعين المجردة قادر على الانتقال من طرف العالم لطرفه الآخر في غضون ساعات وحد العالم ونبذ العنصرية والتعالي وساوي بين الفقير والغني والمواطن واللاجئ ووحد ايضا بين الجنسيات والباسبور وأزال الحدود, وان المرض يهاجم أصحاب النفوذ والسلطة والمشاهير ورؤساء دول وملوك وأمراء أي لا يساوي بين غني وفقير, ويعلمنا أننا قادرين أن نعيش من غير كورة ودوري ومسلسلات وأفلام في رمضان وبلا فوازير وبلا رامز جلال وغيره من البرامج التافهة, ويعلمنا أننا قادرين على أن نفرح ونقيم الليالي الملاح ببساطة وبدون قاعات مذهبة للفشخرة والبهرجة والمنظرة في الدنيا فقط لكي يقال أقيم الفرح أو المناسبة بفندق 7 نجوم, فايروس علمنا ويعلمنا أن برامج التيك توك والتطبيقات المخلة للحياء والحفلات الماجنة والزحمة على أفلام السبكي ومحمد رمضان كلها حياة هشة أوجدت لنا جيل ضائع أمي ضعيف هش يفتقد للقيم والأخلاق. وبيعلمنا ان قعدة القهاوي والشيشة والدخان هي موت بطيء , وان الشهرة وأحلام المغنين وأصحاب النفوذ أموالهم لن تنفعهم, وعلمتنا كورونا وبتعلمنا كل دقيقة ان أصحاب العلم هما الثلة المنتصرة في الأخر, رسائل «كورونا» السياسية والإنسانية لا تنتهي.
ربّ ضارة نافعة، فها نحن اليوم نرى كيف اصطفّ العلماء والباحثين صفاً واحدا أمام هذا الفيروس لاستخراج مصل ودواء. وبالتأكيد فان لذلك معنى كبير جدا على المستوى البعيد يكمن في تحقيق طفرة علمية في هذا المجال قريبا, من ناحية أخرى فقد كانت هذه المحنة والتحدي الكبير سببا لبروز تقنيات وبرمجيات جديدة مبتكرة كطائرات المراقبة والرجل الآلي في المستشفيات وبرامج تحديد وتشخيص المصابين في الجوار, وبرامج أخرى تساعد الناس في الحجر الصحي، وتحل الكثير من المعضلات التي تواجه الدولة في كبح جماح الوباء, والحقيقة الماثلة من كارثة كورونا أنه كلما تقدم الزمن بالبشرية وارتقت العلوم والتكنولوجيا، كلما ظهرت فيروسات جديده اكثر ذكاء وخطورة لم تكن موجودة من قبل كفيروس الايدز وايبولا وسارس وكورونا، وغيرها من الفيروسات وبالتأكيد فان فيروس كورونا الجديد لن يكون اخر هذه الفيروسات كل ذلك يظهر عدم جاهزية العالم في مواجهة هذه الفيروسات الأمر الذي يتطلب من دول العالم وبالأخص المتقدمة منها تخصيص جزء بسيط من موازناتها لدعم البحوث الخاصة بمواجهة هذه الفيروسات والاوبئة التي تهدد البشرية.
لقد انقلبت حياة البشرية رأساً على عقب، وأتي الفايروس ليعري البشرية وليقول لهم تريثوا ويوصل رساله للإنسان انه ما زال جزء واحدا من مخلوقات هذا الكوكب وانه ليس سيد الكرة الأرضية ويجب ان تحترم حجمك ومكانتك لكي يحترمك باقي المخلوقات على وجه البسيطة, فأغلقت المدارس والجامعات والكليات والدروس الخصوصية، وعطلت المصانع ومكاتب العمل والمسارح والمطاعم ودور السينما ومراكز التسوق، وأُلغيت الندوات واللقاءات والمؤتمرات, وعلقت الرحلات الدولية، والغيت كل الفعاليات والتجمعات بما فيها الصلاة في المساجد, وتحولت الى حياة هامدة راكدة إذ أضحى الإنسان حبيس بيته, وانتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي نكتة عابرة للحدود، تحمل في طياتها مغزى كبيراً في هذا التوقيت العصيب الذي أعاد الاعتبار لقيمة العلم أمام تصدع الخرافات، وتقول النكتة الطريفة التي سرت سريان النار في الهشيم بأن: باحثة بيولوجية ردت على المطالبين بإيجاد لقاح لفيروس كورونا بالقول: «تمنحون للاعب كرة قدم مليون يورو شهرياً وللباحث البيولوجي 1800 يورو، وتبحثون عن العلاج الآن؟ اذهبوا لرونالدو أو ميسي ليجدوا لكم اللقاح».
ونحن نقضي الحجر الصحي والعطلة القسرية في البيت بفضل كورونا يجب أن نفكر دوما ونقلق حيال مصير ملايين الفقراء والمحتاجين الذين يكسبون قوتهم اليومي بالكد كل يوم وقد يقتلهم الجوع والبرد, وفي خضم خذا الهلع والرعب نسي الكثيرون منا اللجوء الى الله سبحانه وتعالي وعلينا بالصبر والرضا والاحتساب، وإن مثل هذا البلاء آية سماوية تهدف إلى التذكير والعظة والدعاء فنحن نؤمن بأن هذا الكون في يد رب رحيم، يمكنه في لحظة أن يغير الوضع من الجيد إلى السيئ وفي لحظة أخرى أن يغيرها من السيئ إلى الجيد, والأخذ بالأسباب المادية المشروعة مع التوكل على الله: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يَا عِبَادَ اللَّهِ تَدَاوَوْا، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلَّا وَضَعَ لَهُ شِفَاءً" لذا يجب أن نتعلم من أزمة كورونا ان نتلاحم ونتآلف ونتفاعل اجتماعيا وان العالم سيتغير بعد كورونا وستظهر ثقافة ما بعد كورونا تعلمنا الكثير والكثير وربما ستعلمنا الإنسانية, وينبغي اتباع نصائح الخبراء والمختصين والأطباء وعدم تبسيط الأمر أو التنكيت عليه، كما يجب علينا الابتعاد عن الخزعبلات، فإلى حدود الساعة لم يتوصل العلم لعلاج للمرض، والحل الأمثل الوقاية من العدوى، والعناية بالنظافة وإتباع نظام غدائي طبيعي، والابتعاد عن المنتجات الغذائية المتضمنة لمواد حافظة، لأنها تضعف المناعة ولا تقويها، وفي حالة الإصابة بالفيروس ينبغي تقوية مناعة الجسم لمواجهة الفيروس، وينبغي أن يكون هذا الفيروس درسا وموعظة لنا جميعا، ينبّهنا إلى ضعفنا وقلّة حيلتنا أمام قدرة العليّ العظيم جلّ شأنه, و ينبغي لنا أن نكثر من الدّعاء والإلحاح على الله بأن يدفع عنّا كلّ بلاء ويردّ عنّا كلّ وباء، ومن الأدعية النّافعة بإذن الله، ما أثر عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّه كان يدعو قائلا: “اللهمّ إنّي أعوذ بك من البرص والجنون والجذام ومن سيّئ الأسقام”، ويقول أيضا: “اللهمّ إني أسألُك العفوَ والعافيةَ في الدنيا والآخرةِ. اللهمّ إني أسألُك العفوَ والعافيةَ في دِيني ودنيايَ وأهلي ومالي. اللهمّ استُرْ عوراتي وآمِنْ روعاتي. اللهمّ احفظني من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي، وأعوذُ بك أن أُغْتَالَ من تحتي".
دُرُوس كورونا للإنْسَانِيَّة . . . !
بقلم : د .نيرمين ماجد البورنو ... 25.03.2020