تغيّر حال القرية العربية الفلسطينية في مناطق 48 رأساً على عقب، فهي لم تبق ريفاً ولم تصبح مدينة، بل صارت مخلوقاً مشوّهاً متورّماً، لا تعرف رأسه من قفاه.
تلاشت المساحات الخضراء والحواكير تحت وطأة البنيان والزفت والسّيارة وتداعياتها.
أبنية معظمها يكرّر نفسه، قريبة ومتراكمة إلى جانب وفوق بعضها بعضاً، البُقع الخضراء شامات مختنقة تقترب من الاندثار، تذكّر بدعاية من القرن الماضي للشامبو بالحنجور الأخضر الصغير.
في الحقيقة أن قوانين البناء تنصُّ على إبقاء مساحات من قسائم البناء تصل حتى 40٪ للصالح العام، ولدالية ووردة جورية وحتى للقراصيا التي لم نعد نراها أو نسمع بها إلا في أغنية صباح فخري، لكن هيهات أن يطبّق القانون، لأننا عادة نبني ونسكن ونستقر في البيت ثم نبدأ بالتخطيط، أو أننا نخطّط ولكن لا نحصل على ترخيص، أو لأن جارنا لم يلتزم فأرغمنا على أن نفعل مثله، وفي الواقع لو طُبّق القانون بحذافيره لاضطر نصف السكان على الرحيل، وهاموا على وجوهم بلا مسكن.
في شارع واحد ترى وتسمع ضوضاء منجرة ومحددة ومرآباً ومحل غسيل سيارات وبقالة وروضة أطفال خاصة وفوقها شقق سكنية، ومكتب محامين، وعيادة للطب الطبيعي، ومحاسباً ومقصفاً، وأراجيل ليالي بيروت وصالون أفروديت، وفي شارع آخر ترى فيلا فاخرة بقربها محطة غسيل سيارات ثانية وثالثة، ومخزن أخشاب، ومتجراً للأدوات المنزلية وسيارة معطّلة في مكانها منذ أشهر، كل بضعة أيام تنقص منها قطعة مثل جيفة على جانب الطريق، وتحت الغبار الكثيف على الزجاج الخلفي ورقة مكتوب عليها «للبيع» مع رقم هاتف، وفي الجهة المقابلة مَجْمَع كبير لسيارات الخردة لتفكيكها وبيع قطع الغيار المستعملة منها ثم تقليص هياكلها ونقلها إلى مصانع الصلب والحديد.
المساحة التي تحتاجها السيارات تفوق مساحة الأماكن المُعدّة كمواقف منظمة لها.
الدخول والخروج في الشوارع الداخلية معاناة كبيرة للأهالي ولتلاميذ المدارس وللتجار وللوافدين من خارج البلدات لعمل ما.
قد تفاجئك جبّالة باطون ووراءها مضخّة أغلقتا الشارع، وعلى السيارات من الجهتين الانتظار، أو الاستدارة والبحث عن منفذ آخر.
إذا ذهبت إلى الحلاق أو إلى البريد أو إلى مختص الكمبيوتر أو المخبز أو في زيارة إلى خالتك ووجدت مكاناً توقف فيه سيارتك ستشعر بسعادة خفيفة، وسوف تعتبر أن الحظ ابتسم لك في ذلك النهار، وإذا لم تجد موقفاً، وهذا ما يحدث غالباً، فقد تؤجل زيارة خالتك وحلاقة شعر رأسك إلى فرصة أخرى.
غالباً ما تجد من توقّف أمامك ليُنزِل أو ليحمّل ركاباً أو بضاعة، أو للحديث مع سائق آخر أو راجل عن تسجيلات محمد صلاح لاعب ليفر بول الأخيرة، أو تضطر لسماع مفاضلة صاخبة بين ميسي ورونالدو، وربما تحدثا عن صفقة بيع وشراء سيارة أحدهما.
قد تكون ذا بال طويل، ولكن هناك أناساً من مادة مشتعلة يشغّلون أبواق السيارات ويحثّون على التقدم، تنظر في المرآة وترى السائق يحرك شفتيه ويباركك بشتيمة، ويشير بيده بعصبية ويحثّك على التحرّك، تفكّر وتنظر في الأفق.. حتى لو معك سيارة طائرة، لن تستطيع التحليق بسبب كثافة أسلاك الكهرباء والهاتف فوق الشارع.
تهبط سيّدة متثاقلة من السيارة التي أمامك، تحمل كيساً عليه شارة صندوق المرضى، فوراً يتبادر لذهنك بأنها مصابة بالسّكري، لأن أعداد المصابين به رهيبة.
عندما يكون السائق أنثى يختلف التقييم على الفور، هناك اعتقاد ذكوري راسخ لن يتغير بسهولة، بأن النساء يُربِكن حركة السير بسبب حذرهن الشديد، وكما يبدو أن لهذا الحذر نتيجة طيبة، فالإحصاءات تشير إلى أن 11٪ فقط من الحوادث القاتلة متورطة فيها نساء والبقية للرّجال الرجال.
معظم حالات الانسداد المروري تنتهي بابتسامات متبادلة بين السائقين، ولكن هناك احتمال بأن تشعلها بِنُت شفة مستفزة.
هذا الازدحام يضرُّ بالمحلات التجارية، فقد حدا بالكثيرين على النأي بأنفسهم عنها داخل البلدات والهرب إلى المراكز التجارية الكبيرة التي توفّر مواقف سيارات لزبائنها حتى ولو كانت في المدن البعيدة.
وكأن الذي فينا لا يكفينا، كثيرون من شبان البلدة يستضيفون شاحنات يعملون عليها في المدن ومناطق مثل خليج حيفا، وهي عادة لشركات نقل كبيرة، منها لجمع القناني والعلب الفارغة أو لمواد البناء ومختلف الصناعات والمشروبات الخفيفة والثلاجات المتنقلة وغيرها، يوقفونها على جانبي الشارع أو في الوسعات النادرة داخل البلدة.
قد تفاجأ بوجود شاحنة غريبة في المكان الذي تستخدمه عادة لسيارتك قرب بيتك، تغضب وتنتظر الفرصة لمواجهة السائق المجهول لتطلب منه بأن لا يفعل هذا، لكن عندما تلتقيه وتفاتحه في الموضوع، فقد يتفهّم وقد يطلب منك أن تتفهّم، وقد يدير ظهره لك بدعوى أن الشارع ليس ملك أبيك وأعلى ما في خيلك اركبه.
أصبح معروفاً بأن مديري شركات النقل يشغّلون أبناء هذه البلدة العربية أو تلك، حسب قدرة السائق على توفير موقف للشاحنة، هكذا توفّر الشركة أجرة الموقف التي يفترض أن تدفعها شهرياً في أمكنة منظمة خصوصاً في المدن اليهودية، أما هنا فلا أحد يحاسب.
يبدأ الكثيرون نهارهم بتوتّر إذا ما كان موعد تحرّكهم ما بين الساعة السابعة والنصف حتى الثامنة صباحاً، وذلك أثناء توافد الطلاب إلى المدارس، تقف السيارات الخصوصية والحافلات الصغيرة والكبيرة في وسط الشارع ريثما ينزل منها الطلاب، معظم الصغار يجرّون بصعوبة حقائب تضاهي أحجامهم، وعليك أن تتحلى بالصبر، أو أن تستبق هذا الموعد بعشر دقائق، لتتحرّك بسهولة أكبر.
ذات العجلات تحتل كل شيء، تتكاثر مثل صراصير المطبخ في بيت مهمل، والمساحات تضيق.
المركبة أجمل منتجات الحضارة، جعلت كل يوم في البلدات العربية يوم زحام، وبرأيي المتواضع أنه لا حل إلا بتنظيم وفد من لجنة المتابعة لشؤون الجماهير العربية إلى اليابان أو إلى كوريا الجنوبية لبحث اختراع سيارات قابلة للجمع مثل المظلات، أو أن ننتظر الزلزال الكبير في الشق السوري الإفريقي الذي وعد الجيولوجيون فلسطين به، وحينئذ يجري التعزيل وتخطيط وبناء هذه البلدات من جديد وحسب الأصول.
زحمَة يا بلدي !!
بقلم : سهيل كيوان ... 19.12.2019