التكريم يمنح الإنسان المُكرَّم شعوراً بالرضى وربما بغصّة ما، فتكريم المبدع يعني أن الجزء الأهم من نشاطه وإبداعه صار من ورائه.
كثيراً ما تصل هذه التكريمات متأخرة، فقد تجري بعد رحيل المبدع، أو بعد تناقل خبر إصابته بمرض خبيث والشعور بالتقصير نحوه، فيسرعون لتكريمه في سباق مع المرض، حتى أن التكريم قد يتحول إلى وداع أكثر مما هو تكريم أدبي، إذ تختلط عملية التكريم على المنجز الأدبي بالبعد الإنساني العام والعلاقات الأُسَرية والشخصية.
أحد المبدعين الذين احتفي بهم مؤخراً هو الناقد الأدبي سليمان جبران، الذي ما زال يعيش في حيفا.
له عدة مؤلفات نقدية في اللغة والأدب، منها دراسات صدرت في أكثر من عشرة كتب، منها في شعر عبد الوهاب البياتي، وفي نثر محمود درويش، وشعر الجواهري، وفي أدب أحمد فارس الشدياق الذي قدم رسالة الماجستير حول كتابه «الساق على الساق»، ويعتبره أول كاتب سيرة ذاتية بالعربية وهو أحب مؤلفاته إليه، وله دراسات نقدية في الأدب العربي والفلسطيني، ودراسة في الشعر الفلسطيني في عهد الانتداب البريطاني، ودراسات في اللغة العربية المعاصرة، وأخيراً كتاب «ملفات الذات»، ويأتي فيه على بعض المحطات من حياته منذ طفولته حتى إصابته بجلطة دماغية قبيل بضع سنوات.
أعجبني في مطلع الكتاب لماذا أطلقوا على شقيقه اسم (سالم)، وهو الشاعر الراحل سالم جبران، وذلك لأن والدته سقطت عن سطح البيت أثناء اقتحام شرطي إنكليزي بحثاً عن التبغ المهرّب، ربط الرجال الوالدة الحامل بحبل من خلال ثغرة في سطح البيت الطيني كي تهبط وتربط التبغ المهرّب لسحبه وإخفائه قبل خلع الشرطي الغاضب للباب، إلا أنها سقطت من الحبل على المصـطبة، وذلك لأن الحبل لم يُربط جيّداً، ورغم ذلك نجحت بربط التبغ فسحبوه وأخفوه قبل اقتحام البيت. وبما أن العملية انتهت بسلام ولم تجهض الوالدة، فقد أطلقوا على الجنين الذي كان في رحمها اسم سالم، هكذا.. فالشاعر سالم جبران الذي ذكره الراحل غسان كنفاني كواحد من شعراء المقاومة، بدأ مقاومته وهو في رحم أمه، أما الكاتب سليمان فهو على اسم عمه.
بلا شك.. كثيرون سيقولون إننا لو أطلقنا اسم (سالم) على كل جنين أصيبت والدته بأذى خلال فترة حملها به، سواء من قوات احتلال أجنبي أو من خلال قمع داخلي أو أسري كالزوج والشقيق والابن، أو من خلال حوادث عابرة، لكان عندنا ملايين الذكور من أبناء الأمة العربية الذين يحملون اسم سالم، وملايين من السّالمات.
من جميل اعترافه أن أول وظيفة تسلمها في سلك التدريس كانت بوساطة رجل سلطة كان من معارف والده، إلا أنه اجتهد وواصل دراسته الجامعية في جامعة حيفا إلى أن وصل لأن يكون أستاذاً للغة العربية وآدابها في جامعة تل أبيب.
من القصص المؤثرة في الكتاب، أنه خلال الأيام الأولى للنكبة صدرت أوامر إلى المسيحيين في قرية البقيعة مسقط رأس المؤلف، بالرحيل إلى لبنان، مثل إخوانهم المسيحيين من قرى أخرى.
قرّر والد سليمان أن يفعل أمراً بالنسبة لأرضه، فقد أدرك أن اليهود سوف يستولون على الأراضي التي يُهجّر أصحابها إلى لبنان، فعمد إلى حيلة وكتب حُجّة، والحُجّة في تلك الأيام هي وثيقة بيع وشراء معترف بها، كتبها بينه وبين أبي سلمان من الحارة الشرقية في البقيعة، وهو رجل من أسرة درزية على ما يبدو وبينهما ود وصداقة.
هكذا صارت الأرض ملكاً لأبي سلمان، إلا أن الأوامر ما لبثت أن اختلفت بالنسبة لمسيحيي بعض القرى، بأن يعودوا إلى بيوتهم ومنها البقيعة، ولهذا أسباب سياسية بعيدة المدى لن نخوض فيها هنا. بعد أن استقرت الأمور نوعاً ما، وضمن أبو سليمان بقاءه في فلسطين، زاره أبو سلمان، احتسيا فنجان قهوة، ثم أخرج أبو سلمان الحجة الموقّعة بينهما من عبّه، ومزقها وألقى بها في الموقد.
القصة تحكي عن قيم تلك الأيام، والثقة الكبيرة التي سادت بين الناس لدرجة كتابة الأرض باسم شخص آخر واستردادها عندما تسمح الظروف، وطبعاً هذا ما نفتقده في هذه الأيام.
يتحدث الأستاذ سليمان جبران عن تدخل جهاز الأمن العام (الشاباك) لمنعه من العمل كمعيد في جامعة حيفا التي درس فيها اللغة العربية وتاريخ الشرق الأوسط، وذلك بعدما طلبه أستاذ من أصل فرنسي يعمل في الجامعة ووعده بالوظيفة في السنة التالية، إلا أن هذا لم يحدث، وصار الأستاذ يتهرّب منه دون أن يعرف السبب، وفيما بعد قرأ مقالة كتبها الأستاذ نفسه في صحيفة (هذا العالم) التابعة لحزب مبام الصهيوني اليساري، عن تدخل جهاز الأمن العام في تعيين الموظفين العرب، ومثال ذلك، التوصية بمنع سليمان جبران من العمل كمعيد في جامعة حيفا.
رُبّ ضارة نافعة.. كما يقول، فقد التقى صدفة خلال حفل زفاف في قرية كفر ياسيف بأستاذ للغة العربية من جامعة تل أبيب، وهو يهودي من أصل عراقي وحاصل على الدكتوراه من جامعة أمريكية في أدب نجيب محفوظ، هذا الأستاذ (ساسون سوميخ) عبّد له الطريق للعمل في جامعة تل أبيب معيداً، ليبقى فيها منذ العام 1970 إلى 2007 ليصبح بروفيسوراً ورئيساً لقسم اللغة العربية وآدابها فيها من 1998 إلى 2002، كذلك شغل منصب رئيس مجمع اللغة العربية في حيفا بين 2004 حتى 2006 وهو أحد مؤسسيه.
يتحدث الكاتب عن رفض الشعراء والكتاب تقبل نقده، فرد الفعل يتحول في كثير من الأحيان إلى موقف شخصي بعيداً عن النص ومعالجته النقدية، وهذا جرّ عليه خصومات، حتى إن كثيرين نصحوه بالتخفيف من حدة نقده وإلا فليتحمل الخصومة وسواد الوجه.
أصيب الأستاذ بجلطة دماغية قبل بضع سنوات نجا منها، إلا أنها تركت أثرها في توازنه خلال مشيه، كذلك فإنه ينسى كثيراً، وقد أصبح في الثمانين من عمره، إلا أنه يتمتع بروح الدعابة.
اشتركت في تكريمه قبل أسبوعين في قرية دالية الكرمل التي عمل مدرّساً في ثانويتها في بداية مشواره لمدة عقدين من القرن الماضي، حضر العشرات من طلابه وطالباته، الذين صاروا كهولاً وشيوخاً ورجال أعمال ومتقاعدين ومهتمين وغير مهتمين بالأدب، تحدثوا عن ذكرياتهم مع أستاذ اللغة العربية الذي ما زال يحتفظ بحب كبير لهم ولتلك البلدة المتكئة على مرتفعات الكرمل، وما زالوا يبادلونه الحب والاحترام نفسه.
تكريم شخصية أدبية مرموقة… !!
بقلم : سهيل كيوان ... 21.11.2019