تحتاج دولة الاحتلال دائما إلى عدو يهدّدها بمسحها عن وجه الأرض، فالمسح اللُّغوي هو ذخر كبير لها دوليا وداخليا، بحيث تتحول الأنظار إلى خطر الإبادة الوهمي، تاركة جانبا ما يجري على أرض الواقع، من احتلال وطرد وهدم وترحيل وحصار لضحايا الاحتلال من الفلسطينيين وغيرهم من شعوب المنطقة، وهو مكسب للاحتلال داخل أمريكا ودول الغرب التي تهبّ مدافعة عن حق دولة الاحتلال المسكينة المهدّدة في البقاء والوجود والعيش بسلام، بل ينجرّ بعض العرب إلى هذه الترّهات، لينقلب المعتدي والمحتل إلى ضحية تواجه أعداء يسعون لإبادتها، وليس سرا أن أكثر ما يُفرح قادة إسرائيل منذ عقود هو هذه التصريحات الدونكيشوتية عن قرب محوها من الخريطة ودمارها.
كان يكفي أن ترد إيران على قدر الهجوم الذي تعرضت له في سوريا قبل يومين بغارة صاروخية على مواقع إسرائيلية في الجولان، تعادل ما تعرضت له، كان يكفي أن يكون الرد على قدر العدوان، وحينئذ سوف يتأدب نتنياهو، وستهبط شعبيته، أما العجز عن الردّ الواقعي، ثم الرد بوهم محو إسرائيل من الوجود، فهو رد العاجزين، وليس رد الأقوياء، وهذا يزيد نتنياهو مكاسب وزهوا واختيالا.
هكذا يفخر نتنياهو بإنجازاته العسكرية ثم الدبلوماسية إذ يُستقبل في بلدان عربية وإسلامية بتبجيل فائق، وآخر زياراته كانت إلى دولة تشاد ذات الأكثرية المسلمة، وقد اعتبرها فتحا كبيرا من فتوحاته الدبلوماسية، كذلك افتتح مطار (رامون) شمال إيلات، رغم احتجاج الأردن ومعارضته، في رسالة منه إلى الأردن، بأن اتفاق السلام لا يعني الاحترام المتبادل وعلاقة الند للند، موقف العربدة هذا يقوّي نتنياهو ويمنحه المزيد من التنمّر على حساب جيرانه الضعفاء. أما الموقف الروسي في سوريا، فهو موقف حكم مباراة مرتش، ويصبّ في صالح نتنياهو، ويؤكد الحديث عن احتمال تدخل روسي في الانتخابات الإسرائيلية لصالح نتنياهو، فالموقف الروسي المحايد يخدم بيبي جدا، إذ تكتفي روسيا العظمى بشرف إخبار إسرائيل لها قبل دقائق من بدء الضربات لقوات إيران وقوات النظام السوري إذا وُجدت معه أو بالقرب منه.
وعودة إلى تهديدات إيران بمسح إسرائيل، فقوات إيران البرّية لن تستطيع العمل بفعالية ضد قوات الاحتلال الإسرائيلي، حتى لو نجحت أعداد كبيرة منها في الوصول إلى سوريا، فهي غير محمية من الطيران الإسرائيلي، أما طيرانها العسكري، فهو ضعيف جدا ومتآكل بسبب الحصار، ويبقى اعتمادها الأساسي في حال وقوع المواجهة على سلاح الصواريخ، وبالأساس على حزب الله اللبناني وكذلك على المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة. سلاح الصواريخ الإيراني قادر على أن يصل إلى المدن الإسرائيلية، ولكن ما هي النوعية التي ممكن وصولها وما هو تأثيرها على اتجاه الحرب المفترضة؟ وما هي قدرة صواريخ (حيتس) الإسرائيلية والباتريوت الأمريكية في التصدي لها، والتي تُسجل حتى الآن بحسب وزارة الحرب الإسرائيلية نسبة 87% من النجاح في إسقاط صواريخ بالستية معادية؟ إذن قد تسبب صواريخ إيران البالستية التقليدية والمتطوّرة أضرارا في الجانب الإسرائيلي، ولكنها لن تعدّل التوازن المختل كثيرا لصالح إسرائيل في القوة الصاروخية والطيران، خصوصا أن أمريكا سوف تضع إمكانياتها من أقمار صناعية وأسلحة في مواجهة إيران.
الموقف الروسي في سوريا هو موقف حكم مباراة مرتش، ويصبّ في صالح نتنياهو
القوة الإيرانية الضاربة الحقيقية هي قوتا حزب الله وترسانته الصاروخية والمقاومة الفلسطينية في القطاع القادرتان على تشويش مجرى الحياة العادية في إسرائيل لبضعة أسابيع، ولكن السؤال ما هو الثمن الذي سيدفعه الفلسطينيون واللبنانيون في مواجهة كهذه لمساعدة إيران؟ في حال مواجهة إيرانية إسرائيلية واسعة، فالضحية الأساسية سيكون لبنان وقطاع غزة، حيث ستقذف آلة الحرب الإسرائيلية على هذين الطرفين كل سمومها، إذا ما حاولا دعم إيران في معركتها على وجودها في سوريا، وبالنسبة للنظام السوري فهو سيتلقى نصيحة من روسيا، بأن يكتفي بالدفاع عن نفسه في حال تعرّض قواته لضربات إسرائيلية، وسوف يحاول أن يبقي بعض ماء الوجه بردّ هنا وآخر هناك، ولكن النتائج معروفة، وسيكون الروس مشكورين إذا ما نجحوا بمسعى لوقف القتال المفترض.
على المقاومتين في قطاع غزة ولبنان خفض سقف التوقعات من إيران التي جاءت أصلا إلى سوريا بهدف واضح، هو نصرة النظام ضد الثورة السورية، وليس لمحاربة إسرائيل، وثمن الكلام عن محو إسرائيل، سيكون من دماء الفلسطينيين واللبنانيين والسوريين أولا، ثم شعب إيران، مقابل ثمن بسيط تدفعه إسرائيل من جيشها ومدنييها.
صحيح أن إيران قوة إقليمية لا يستطيع أحد الاستهتار بقدراتها، ولكن مواجهة إسرائيل وأمريكا الداعمة لها بلا قيد أو شرط تجعل الموازين مختلة خللا كبيرا ليس لصالحها، إضافة إلى البعد الجغرافي الذي يعني تحييد قواتها البرية، سواء قبل وصولها ساحة المعركة وخلال نقلها، أو بعد وصولها، إذا استطاعت الوصول. من ناحيته سيواصل نتنياهو صفعاته هذه بين حين وآخر، فهي تمنع ترسيخ الوجود العسكري الإيراني في سوريا، وتحدّ منه، كذلك تؤدي الدور الإعلامي المطلوب لصالحه، ومن ناحيته سيرضى بشار الأسد بأي وضع يُجنّبه المواجهة الحقيقية مع إسرائيل، ويبقيه في موقعه.
نرجوكم عدم مسح إسرائيل من الوجود !!
بقلم : سهيل كيوان ... 24.01.2019