تخيّل شخصا ما لا يوجد بينك وبينه أي تقارب فكري، تختلفان في كل قضية تُطرح مهما ظننتها بسيطة، والأهم أن الخلاف بينكما لا يؤدي إلى نتيجة أو اتفاق على شيء، ولكنه كثيرا ما يزورك، وفي كل مرة يثير أعصابك ويعكّر مزاجك وهو في غاية البرود، كأنّما يؤدّي وظيفة أو كأنه يتلذذ بتعذيبك، لكنك تتقبّله لعلاقة قربى وصلة رحم أو لصداقة قديمة بينكما، ولم يعد في العمر متّسع لإلغائها أو استبدالها.
أحيانا أكون مستغرقا في قراءة ممتعة، وهذا نادرا ما يحدث في السنوات الأخيرة، وفجأة يرنّ جرس المدخل، أقوم وبيدي الكتاب، أفتح الباب فأجده واقفا مبتسما متأهّبا للدخول، أبتسم في وجهه وأقول هاشا باشا: أهلاااااااان، وأشعره بعكس ما أضمر لزياراته الكثيرة.
أضع الكتاب مفتوحا ومقلوبا على الطاولة بيني وبينه، كأنني أحثّه على الإسراع في إنهاء زيارته كي أواصل القراءة.
يستقر في مجلسه ويقول بهدوء: يبدو أنك تقرأ؟
-نعم رواية ممتعة..
يبستم- وماذا تفيد الروايات والقصص؟ إنها لن تغيّر من الواقع شيئا.
ولكنها متعة أن تعيش في عالم غير هذا الذي تعرفه!
يضحك: إذن لماذا لا تسافر وترى العالم بعينيك؟ كل شيء صار رخيصا، هل تريد أن أبحث لك عن رحلة رخيصة ومقبولة؟ ماذا تحب؟ روما أم إسطنبول أم مدريد؟ سأبحث لك في البوكينج؟
لا لا، بارك الله بك، لا أفكر في السفر الآن…
لكنّه يواصل البحث في هاتفه عن أماكن وأسعار يقترحها للسفر، وأنا ممتعض ولا أصغي لمقترحاته المتعددة حول المدن وأسماء الفنادق والأسعار ووكلاء السفر، أتثاءب وأتنفس الصعداء بملل وأخيرا يقول: يجب أن أقوم!
أقول لنفسي: «فُرِجت، ها هو سينهي زيارته»، وأقول له كعادة العرب ولكن ببرود يصل درجة الصفر:على شو مستعجل؟
وكأنه ينتظرها، فيتلقّفها ويرتاح من جديد في مقعده، ويواصل الجلوس، نتحدث عن الأبناء ودراستهم الجامعية وعملهم وخطوبة أحدهم للمرّة الألف.
أشعر بنعاس، فأقوم إلى الحمام وأغسلُ وجهي على أمل أن يعلن انتهاء الزيارة، ولكنه ينتظر عودتي، ليقول: أرجو أن لا أكون قد أثقلت عليك؟
- لا أبدا، أهلا وسهلا، أنا مستأنس بك…
-حقّا؟
-نعم فأنا أشكرك، لقد منحتني فِكرة لمقالة..
-أنا؟
-نعم أنت…
-هل ستكتب عن سلك التعليم والتقاعد؟
-لا، بل عنك أنت…
-أنت تمزح…
-لا، أنا لا أمزح، صدّقني سأكتب مقالة عنك…
يضحك- وما هو موضوعها؟
لا أستطيع الاعتراف بما يدور في ذهني فأتراجع: هل صدّقت أنني سأكتب عنك؟ إنني أمزح يا رجل..
-عرفت بأنك تمزح، فماذا يمكن أن تكتب عني؟
لا يمضي يومان حتى يعود، وتطل زوجتي بملامح متضامنة معي: إنه يسأل عنك؟
لا أستطيع الإدعاء بأنني لست في البيت، أو بأنني نائم، مثلما يفعل بعضهم، أجد في هذا تفاهة، فإما أن أستقبله باحترام، أو أن أكون شجاعا وأصارحه بأن يخفّف من زياراته، أو ينظّمها هاتفيا على الأقل.
إلا أن زياراته تزايدت، بل تفاقمت، بعد تقاعده عن العمل، صارت المسافة بين زيارة وأخرى تضيق، ثلاث وحتى أربع مرات خلال الأسبوع.
أتذمّر على مسمع زوجتي من حديثه المملّ المتكرر، وطريقته المستفزة في الحوار، وتذمّره الدائم من الحياة، رغم أن دخله هو وزوجته ثلاثة أضعاف دخلي أنا وزوجتي، ويسافر وزوجته إلى بلاد الله الواسعة، ولكن كأنه لم يستفد من رحلاته ومهنته شيئا سوى أن يستفزني، ويبدو خاملا جدا مثل بطارية انتهت صلاحيتها.
لم تعد زوجتي تذكر اسمه، لتخبرني بوصوله، فقط تقول: إجا..
لا إله إلا الله، استغفر الله العظيم، أتّجه إلى الباب أفتحه، وأقول بنبرة حيادية باردة جدا: تفضّل أهلا وسهلا…
يدخل بهدوء وفي غاية الذوق والأدب يستقر في مكانه، وأحيانا يقترح «برّا توجد نسمة لطيفة، تعال نقعد برّا».
أجالسه بحذر، محاولا الابتعاد عن المواضيع التي قد تنتهي بتنغيص نهاري، وأسأله كالعادة عن الأولاد ويسألني.
-هل تكتب شيئا جديدا؟
-نعم نعم، أكتب دائما…
-وهل يوجد قراء؟
-يعني لا يخلو الأمر من قارئ هنا وآخر هناك؟
-وهل تربح من هذا شيئا؟
أهمس في داخلي، لا حول ولا قوة إلا بالله من هذا السؤال البارد المتكرر، وأقول: لا يا أخي، لا، لا يوجد أي ربح.
يضحك: إذن لماذا تكتب؟!
-هذه هواية ومتعة.
- متعة بلا مقابل؟ أنا لا أستطيع أن أكتب عشرة أسطر…
في إحدى زياراته قلت لزوجتي قبل أن أفتح له الباب: «هل تستطيعين أن تدبّري لي ألف دولار»؟
استغرَبت وقالت- «خير شو القصة؟ لشو بدّك الألف دولار»؟؟
- «بدّي أشتري مسدّسا من السوق السوداء وأطخّه وأستريح».
ضحكنا، وصرت أقول لها في كل زيارة له: دبّري الألف دولار بسرعة، لا مناص من طخِّه…
صارت في كل مرة يأتي تقول لي بصوت منخفض:
-حضِّر المُسدّس..
فأرد عليها:لا مناص، لا مناص من طخّه.
نبتسم ونستقبله.
في إحدى الزيارات سمعني أسالها السؤال التقليدي بعد ولوجه البيت: ألم تدبّري الألف دولار؟
فتدخّل- هل تريد شراء شيء ما؟
-لا لا شيء..إني أمزح معها..
-بشرفك لا تخفي عني ..لماذا تريدها؟
-سأشتري مسدّسا، قلت مُبتسما..
-لا سمح الله، لسنا من هؤلاء، احك بجد، هل تريد ألف دولار؟
- يا زلمة إنس الموضوع، نحن نمزح.
دارت الحوارات الباردة بيننا، وكالعادة قال لي «سأقوم الآن»، ثم بدأ جلسة طويلة من جديد، وأخيرا خرج وأنا أتوعّد نفسي، يجب أن أخبره بأن زياراته بهذه الوتيرة باتت تضايقني.
لم تمض ساعة على خروجه حتى رنّ جرس الباب، ذهَبت زوجتي وعادت وهي شبه مذهولة: إنه هو…
-لا مفر من المسدّس لا لا مفرُّ…
- هذا جُنّ تماما…
فتحتُ الباب، وهذه المرّة تنهّدتُ وقلت بجفاء: يبدو أنك نسيت شيئا ما؟
فرد بهدوء وعيناه الصفراوان تلمعان: أقسم بالله إنك ستأخذها…
ولك شو هذا؟
كان يمسك شيئا ما في قبضته: خذ هذه ألفا، اقض حاجتك بها، وأعدها متى تشاء.
يا رجل، عن ماذا تتحدث؟!
لا تحاول الرفض، لقد أقسمت عليك بالله العظيم أن تأخذها وأعدها متى تشاء، نحن أصدقاء نحن أخوة، ثم دفعني من صدري ودخل، وألقى بضع وريقات خضراء من فئة المئة دولار على طاولة الصالون وخرج مسرعا: سأذهب الآن لإحضار ابنتي من محطة القطار، «بكرا برجع بشوفك إن شاء الله».
«وإن شاء الله ألاقي حدا يبيعني المسدّس…».
ثمن المسدّس…!!
بقلم : سهيل كيوان ... 27.09.2018