يُحيي الفلسطينيون والإسرائيليون في الأيام القريبة المقبلة ذكرى النكبة،
هم يرقصون ونحن نندب أندلسنا الضائعة.
إلا أننا كلما ابتعدنا في الزمن عن يوم النكبة اكتشفنا قصصاً شخصية لم نكن نعرفها، قد يكون أصحابها بيننا. قبل أسبوعين ذهبت لتقديم واجب العزاء لرجل في بلدتي توفي شقيقه في صيدا في لبنان.
خلال تناول أطراف الحديث بين المعزين فهمت أن الرجل الذي أتيت لتعزيته بقي وحيداً من أسرة كاملة هُجّرت عام النكبة!
قلت: لا أفهم كيف أن أشقاءك ووالديك هاجروا وبقيت وحدك في البلد!
فقال: في ذلك النهار المعروف بالطوق الكبير، وبأمر من الجيش، دار المختار على البيوت وأعلن أن اليهود سوف يطلقون النار على كل من يجدونه في بيته، وعلى الناس التجمع في ساحة العين. تجمّع أهل البلدة واللاجئون من القرى المجاورة وقام الجيش بإجراء تصنيف لمن كانوا غير مسجلين في الإحصاء الأول الذي جرى بعد إعدام أحد عشر شاباً في الساحة بهدف تخويف الناس. كل من خاف على روحه ولاذ ولو لمسافة مئة متر خارج القرية لم يُسجّل في التسجيل الأول واعتبر أنه انضم إلى قوات العدو أو خرج برغبته.
جمعوا أكثر من خمسمئة إنسان من الرجال والنساء والأطفال من أهل القرية ومن لاجئين جاؤوا إليها من قرى مجاورة وحملوهم في حافلات لترحيلهم (حسب وثائق الجيش الإسرائيلي كان هذا في 9-1-1949 شملت هذه الدفعة 536 فرداً وُصفوا بأنهم متسللون ومجرمون)، كانت أسرتي مع هؤلاء المجرمين باستثناء جدّتي، وصلنا الحافلة فصعد والداي وأشقائي الثلاثة وشقيقتي وأنا كنت الأخير، أنا كنت في الخامسة وأحمد كان عمره سنتين على يد والدتي وكانت حاملاً بمحمد، جدتي سُجلت في الإحصاء الأول ومعها قسيمة، رافقتنا إلى الحافلة فودّعت والديّ وأشقائي وشقيقتي وأنا بقيت ممسكاً بثوبها وهي أمسكت بيدي، في اللحظة الأخيرة التي تحركت فيها الحافلة أخذتني ومضت. لحق بنا جندي وحاول استدراك الأمر فقالت له: الله يخليك لأمك يا خواجة…خليلي نتفة هالولد يسليني! تناقش مع جندي آخر ثم قررا وأعطوها ورقة، هكذا بقيت مع جدتي، بينما رحلت بقية الأسرة مع المرحّلين إلى وادي عارة ثم إلى الضفة الغربية، ومن هناك داروا إلى لبنان، طبعاً ظنوا أنها بضعة أيام ويعودون.
في العام 1982 بعد اجتياح لبنان ، قلت أذهب إلى عين الحلوة أرى أهلي وأخوتي، حصلت على تصريح لسبعة أيام على المعبر ودخلت بسيارتي، الدخول على مسؤولية من يدخل وممنوع بأن يُحمّل أحداً في سيارته. غيّرت لوحة السيارة الإسرائيلية بلوحة لبنانية ومضيت إلى عين الحلوة فوجدت أحمد ومحمد ووالدتي في المخيم كان هذا قبل خروجهما منه إلى صيدا وقبل وفاة والدتي، أما البقية فهم تزوجوا وهاجروا إلى السعودية والخليج ووالدي متوفى من قبل أمي، طبعاً كان اللقاء حاراً وفوق الوصف بعد حرمان خمسة وثلاثين عاماً، وبرمشة عين انتهت الأيام السبعة وقال لي أخواي ووالدتي: على شو مستعجل! مستكثر علينا نشوفك بعد خمس وثلاثين سنة! فقلت هاتوا ما عندكم من أقلام، بحثوا عن أقلام حتى عثروا على اللون المناسب وأضفت للرقم 7 رقم 1 فصارت سبعة عشر يوماً، انتهت السبعة عشر يوماً برمشة عين، ولكنهم تمسكوا بي فبقيت أربعة أيام أخرى فصارت واحداً وعشرين يوماً. خلال عودتي في معبر رأس الناقورة سلّمت الضابط تصريح الدخول، أمسكه وتمايزه وتأمل فيه وبدا مشكّكاً فتصريحي هو الوحيد الذي يحمل رقم 17 يوماً البقية كلها سبعة، سألني: ولماذا مكثت واحداً وعشرين يوماً بدلا من سبعة عشر! فهمت أنني متورط لا محالة فماذا أقول له، يا ربي شو أقول له! حينئذ قفزت فكرة جهنمية إلى رأسي وهمست في أذنه: أنا من الأمن العام ووقتي محشور لو سمحت. نظر إلي متفاجئاً ثم «شالني» من فوق لتحت ومن تحت لفوق وقال: «تفضل يا سيدي ادخل مع السلامة». خرجت من المعبر غير مصدق نجاح الفكرة ووصلت البيت وأنا فرح بأنني نجوت من علقة ساخنة.
بعد ثلاثة أيام وأنا جالس هكذا في هذا المكان وأمامي غلاية القهوة وصلت سيارة خصوصية بيضاء من نوع فورد إسكورت، توقفت أمام البيت وترجل منها اثنان، فهمت فوراً أنهما مخابرات لأن هذه كانت سياراتهم. بعد التحية جلسا، صببت لهما فنجان قهوة، سألني أحدهما أين كنت قبل أيام! فقلت له كنت عند أخوتي وأمي في لبنان!
- وكم مكثت في لبنان؟
- مكثت واحداً وعشرين يوماً!
- وكم كان تصريحك ؟
فهمت أنهما يعرفان القصة كلها ولا داعي للكذب فقلت: كان معي تصريح لسبعة أيام زوّرت الورقة إلى سبعة عشر يوماً وزدت لإقامتي أربعة أخرى!
- آها وكيف دخلت على المعبر؟
- الضابط أدخلني..
- كيف؟
- قلت له إنني من الأمن العام..
- كيف تدعي أنك من جهاز (الشاباك) هل أنت طبيعي أم مضروب في مخك!
- أنا مضروب في مخي..
- فعلا أنت مضروب..
- لو أن أحدكما لم ير أمه وأباه وأشقاءه كلهم منذ خمسة وثلاثين عاماً وكان طفلاً هل يلتزم بتصريح لأسبوع! هل كثيرٌ أن أزوّر ورقة لأقيم بضعة أيام أخرى مع أسرتي!
- ولكنك زوّرت وانتحلت شخصية من الأمن العام هذه مخالفات خطيرة وليست مخالفة عادية!
- قلت لكما أنا مضروب في مخي!
- حتى المضروب في مخه عليه مسؤولية، مخالفتك خطيرة!
- يعني أن أبقى خمساً وثلاثين سنة من دون أسرة منذ كنت في الخامسة هذه ليست مخالفة خطيرة! على كل حال يلا خذوني واحبسوني…
- طيب أين الورقة التي زوّرتها؟
- رميتها بالبحر هناك في الناقورة ولماذا أبقيها معي!
هزا برأسيهما وقال: «حسناً يا حضرة رجل الأمن العام نحن جئنا بمهمة تفتيش عن الورقة، ولكن بما أنك اعترفت بكل شيء فهذا سهّل الأمر علينا وعليك».
بعد أسبوعين وقفت في قاعة المحكمة مع عدد كبير من أمثالي من بلدنا وغيرها ممن زاروا عائلاتهم في لبنان ولم يلتزموا بأوقات التصاريح، بل أن بعضهم دخل من دون تصاريح أصلاً ووصل إلى مخيم شاتيلا، كان هذا بعد المجزرة هناك، البعض حُكم بسّجن فعلي وغرامة مالية، البعض اكتفوا منه بغرامة، أنا أكلت نصيبي ولكن زيادة حبتين عن الآخرين…
- بصفتك ضابطاً في الأمن العام!
ضحك – نعم بصفتي ضابطاً في الأمن العام…
- رحم الله شقيقك أحمد..
- تعيش تعيش الله يخليك ويرحم أمواتك..
همستُ للضابط: «أنا من الأمن العام…»!!
بقلم : سهيل كيوان ... 27.04.2017