أحدث الأخبار
السبت 23 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
رشّة عطر زائدة…!!
بقلم : سهيل كيوان ... 08.12.2016

قبل أيام، على مدخل قاعة المسرح البلدي في عكا، وقفت سيدة أنيقة، تنبعث منها رائحة عطر قوية ملفتة،
حتى أن الواقفين صاروا ينظرون إلى بعضهم البعض بتلك النظرات المتسائلة بصمت.
همست لزميلي: هذه السيدة لم تترك عطراً إلا وسكبته على نفسها». فرمقتني بنظرة لم أفهم كنهها، هل هي عتاب أم لامبالاة.
كانت رائحتها منتشرة على مسافة أمتار حولها في القاعة، الجميع شعر بذلك. في الاستراحة، تقدمت مني وقالت: أنا أعرفك جيداً، وأريد أن أتحدث إليك قليلًا.
- تفضلي!
-أعرف أن هناك ما هو أهم بكثير من حياتنا الشخصية، هناك حروب وضحايا ومشردون وسجناء واحتلال واستبداد، ورغم ذلك نحن لا نستطيع التحرر من ذواتنا، أنت لا تعرف أنني معاقة ولا أحد هنا يعرف، ولن تستطيع أن تعرف ما هي إعاقتي إذا لم أخبرك بها!
نظرت إليها مليا فقالت: لا تحاول فإعاقتي غير ظاهرة، أنا لا أعرف ماذا يعني رائحة ذكية أو كريهة، لأنني لا أشم أصلاً، كل الروائح عندي سيّان، هكذا ولدت، الأطباء أكدوا أن المشكلة منذ كنت في رحم أمي ولا يمكن إصلاحها، وفي مثل حالتي هذه يوجد فقط واحد من مليون في العالم، والمؤسسات الرسمية لا تعترف بأنها إعاقة.
- بعد إبداء دهشتي واصلت الحديث:
بدأت أشعر بهذا الخلل في سن الخامسة، المعلمة أحضرت حبّات فاكهة وخضار ومواد أخرى وطلبت منا إغماض أعيننا والتعرف عليها من روائحها، عندما شممت البصل قلت هذا برتقال، وضحك الجميع، في البداية ظننت أن الرائحة والذوق هما حاسة واحدة، ولكن عندما تكررت على مسامعي كلمات عن روائح الليمون، والبطاطا المقلية، والكاز، والجوافة، والأزهار، وكعك العيد، والبصل في الفرن وغيرها، صرت أشك بأنني أفتقد شيئاً ما!
صحيح أن هذه الإعاقة بسيطة مقارنة بفقدان البصر أو الشلل، ولكن فيها معاناة أيضاً.
الأنثى يجب أن تكون رائحتها طيبة دائماً، هكذا يقولون، وقد حدث أكثر من مرة وسببت لي رائحة منبعثة مني حرجاً شديداً، ولهذا أنا قلقة دائماً بشأن رائحتي، فأستحم بصابون معطر أكثر من مرتين في اليوم، وأتعطر.
في يوم ما هُرع الجيران إلى بيتي ليقولوا لي إن رائحة غاز الطبخ تملأ الحي وهي منبعثة من بيتي. كان يكفي زر كبريت أو شرارة من قداحة ليطير البيت بما فيه، ولهذا السبب أتفقد الغاز كثيراً وبقلق دائم، وأحياناً أصحو في الليل لأتفقد المفاتيح خشية تسرب غاز.
في إحدى المرات سمعت شقيقي الأصغر يصيح « رائحة شيء يحترق»! وركض إلي مذهولًا ليبعد المدفأة التي أحرقت الكنبة وأنا مستلقية عليها أمام جهاز التلفزيون.
«رائحة شيء يحترق» بالنسبة لي مقولة مرعبة!
قرأت أن القطط تشم أقوى من الإنسان بعشرين مرة، والكلاب ضِـــــعف القطط، وأن للإنسان عشـــرة ملايين مستقبِل شمّي، ولكنها تصل عند الكلاب إلى ملياري مستقبِل شمي.
يبدو أن ضعف حاسة الشم أدى لضعف في حاسة الذوق أيضاً، وحدث غير مرة أن تناولت طعاماً تالفاً أمرضني.
لهذا اتخذت قطاً صديقاً لي، ما يأكله القط آكله، وما يمتنع عنه لا آكله، القط يرفض تناول بعض المعلبات من اللحوم، يشمها ويبتعد عنها، أفعل مثله فأنا أثق به، فيما بعد فهمت أن القط يمتنع عن الطعام الذي يحوي نسبة عالية من المواد الكيماوية الحافظة، الغريب أن البشر يأكلونه بشراهة ولا يشعرون بالسموم.
مع القط أنام مطمئنة بأنه إذا شم رائحة حريق أو غاز أو أي شيء غريب سوف يموء حتى يوقظني.
أفرك أسناني مرات عدة في اليوم، ولا تنقطع العلكة بطعم النعناع من حقيبتي، يقولون إن رائحتها طيبة، ولكن قاطعت الثوم والبصل احتياطاً ومنعاً للإحراج.
في لقاء لي مع الرجل الذي أحببته وصار زوجي أخذ نفساً عميقاً وقال: ياااه ما أجمل عطرك، وراح يحدثني عن أصناف العطر.
أنا مثّلتُ الدور بأنني مستمتعة بعطره وقلت له: ياه ما أذكى رائحتك.
كانت النشوة على وجهه، وهو يعب الرائحة المتناثرة مني، إلى أن سألته: أيّهما أذكى برأيك، رائحة العطر أم رائحة مسخن البصل بالفرن! ضحك يومها كثيرًا، واحمر وجهي، لم أقصد أن أحكي نكتة، هو لم يفهم لماذا احمر وجهي، ضحك كثيراً من تساؤلي الذي بدا سخيفاً، حينئذ أخبرته بأن سؤالي حقيقي وليس مزاحاً، وكشفت له سري بأني كذبت عليه ولم أشم عطره، ولكنني شممت حنانه وطيبته».
في اللقاء التالي أهداني رواية العطر للألماني زوسكيند، قرأتها أكثر من عشرين مرة، ولم أملّ منها، كانت هذه الرواية بالنسبة لي أهم ما قرأته على الإطلاق، بنى الكاتب في خيالي تصورًا لمختلف الروائح وخصوصاً الياسمين.
عندما أنجبت ابني الأول احتضنته وصرت أتنشق رائحته مثل الوالدات الأخريات، دون أن أشم شيئاً، وهي حسرة في قلبي أنني لا أستطيع شم رائحة ابني أو رجلي الذي يغمرني بحنانه، ولا رائحة والدتي قبل رحيلها.
اليوم يا عزيزي هو الثالث من كانون الأول/ديسمبر، يوم المعاق العالمي، رششت شيئاً من العطر وخرجت في طريقي إلى هنا، وقبل أن أصل مر بجانبي أحدهم وتفّ بغضب وتحدث عن رائحتي بكلمات حقيرة، فما كان مني إلا أن عدت إلى البيت وسكبت قارورة العطر كلها على جسدي وثيابي وأتيت إلى هنا لأقول إن هناك إعاقات لا ترى بالعين المجردة، أصحابها يعشيون بينكم، وهناك معاقون في أجسادهم أو حواسهم، وهناك معاقون في عقولهم وأرواحهم مثل هذا الذي شتمني بسبب عطري، وهناك من يخفون حزناً كبيراً تحت ابتساماتهم، فإذا كنتم تشمّون روائح أحبائكم وطعامكم وأزهاركم ورائحة غاز الطبخ والحرائق والعطر، فاحمدوا الله كثيراً، لأن هناك من هو محروم من هذه النعم الكثيرة التي تعيشونها دون أن تنتبهوا إليها!!

1