متاهة عبث جديدة تجد فلسطين نفسها فيها ثانية، هذا الوطن الصغير/الكبير الذي لا تنقصه المتاهات ولا ينقصه العبث.
مرة أخرى نجد أنفسنا غارقين في مستنقع، لا الاحتلال الصهيوني دفعنا إلى وحلة ولا الإمبريالية العالمية!
«حماس» تنفي والوثائق تؤكد، والمتنازع عليه هذه المرة الشهيد الذي وصفته قبل أشهر في تقديمي لكتاب الدكتور محمد عبدالقادر (غسان كنفاني.. جذور العبقرية وتجلياتها الإبداعية) قائلا: إنه الظاهرة التي مرت في حياتنا كشهاب وعاشت في قلوبنا كشمس.
يبدو أننا وصلنا إلى مرحلة بتنا فيها نختلف على معنى الشّهاب ومعنى الشمس، في وطن مطارد بالظلام منذ أكثر من مئة عام، ومتشبث بخيط النور بين ليل صهيوني مطبق، وليل عربي رسمي بات يكرّس قواه لدفع هذا الوطن إلى قلب الظلام أكثر فأكثر.
ليست القضية في ظنّي قائمة في مسألة تغيير اسم مدرسة غسان كنفاني لكي تحمل اسم السفينة مرمرة، مع أهمية ودلالة هذا، كما أن القضية ليست في إبقاء اسم غسان فوق بوابة تلك المدرسة وأختام إدارتها. إن المسألة في الحياة الفلسطينية تتعدى هذا الأمر بكثير إذا ما طرحنا الأمر على النحو التالي: لنفترض أن «حماس» لم تغيّر اسم المدرسة، ولنفترض أننا نصدق نفيها للأمر جملة وتفصيلا، فهل هذا هو جوهر المسألة فعلا أم أن الأمور باتت، فلسطينيا، أعقد من هذا بكثير، وعلى جميع المستويات التي تمس تنظيمات وأحزاب هذا الوطن الصغير/الكبير كلها.
هل نحن نعيش حالة صحية، بحيث يمكن أن تقوم «حماس» بإطلاق اسم غسان كنفاني على مدرسة لو لم يكن هذا حاصلا؟! هنا يمكن أن نصل إلى الجواب الذي سيوضح لنا حقيقة الوضع الفلسطيني. فالاختبار ليس نفي تغيير الاسم، بل هو افتتاح مراكز جديدة يمكن أن تحمل اسم غسان وسواه من كبار مثقفينا، هذا هو اختبار «حماس»، كما هو اختبار (فتح) في الضفة، واختبار «الشعبية» و»الديمقراطية» في أسماء أخرى ومؤسسات أو قاعات (تملكها) لم تطلق عليها أسماء بعد.
ولنفكر بصوت عال ووضوح أشد سطوعا، وأظن أن علينا أن نفعل ذلك كلنا، لأن الوضع الفلسطيني، الذي يسكن ضمير كل إنسان حي في هذا العالم، لم يعد يحتمل مواصلة سفح دم فلسطين ودم أبنائها من المبدعــــين والأسرى والمصابين والشهداء؛ فحتى الشهداء يتواصل إطلاق النار على شواهد قبورهم، وجعل هذه القبور أكثر عمقا لضمان عدم عودتهم وليس الأسرى فقط!
لقد استنفرت «الجبهة الشعبية» لاستنكار ما قامت به «حماس»، وهذه المهمة في اعتقادي هي مهمة كل التنظيمات وكل الكتاب وكل قراء غسان كنفاني الذين دقوا جدران الخزان ولم يتوقفوا عن فعل ذلك. والأمر برمته بحاجة إلى صحوة فلسطينية أكثر جرأة وشفافية، لأن غسان كنفاني هو لكل الشعب الفلسطيني، وعنوان واضح لأشواق روح هذا الشعب للحرية، هو وكل كاتب حقيقي آخر.
في رام الله، يجري احتكار اسم محمود درويش، لا من السلطة وحدها، بل من مجموعة صغيرة تعتقد أن محمود درويش مِلْكِيِّة خاصة لها، لا يجوز الاقتراب منه، أو المساس به؛ وفي اعتقادي أن ذلك ترك أثرا سلبيا على محمود درويش لدى أطياف سياسية واجتماعية وثقافية إلى حد بعيد، في وقت يحق فيه لكل إنسان مؤمن بقضية فلسطين، حيثما كان على وجه الأرض، أن يُسائل محمود وغسان ومعين بسيسو وسميح القاسم وكل الراحلين وأولئك الذين ما زالوا على قيد الحياة، أن يسائلهم سياسيا وثقافيا وإنسانيا، محبا ومنتقدا.
إن إقامة متحف باسم محمود درويش أمر رائع، وهو متحف يليق بهذا الاسم، لكن فلسطين ستكون أجمل وأروع وأعظم وأغنى، لو أن من حرصوا على إقامة هذا المتحف، قد عملوا أيضا على إقامة متاحف أخرى، في مدن فلسطينية أخرى، كما قلت قبل عامين في محاضرة لي في متحف درويش، متاحف تحمل اسم غسان كنفاني، وإبراهيم طوقان، وفدوى طوقان، وأبي سلمى، وإميل حبيبي، وجبرا إبراهيم جبرا، وإدوارد سعيد، ومعين بسيسو وسميح القاسم وتوفيق زياد، وإسماعيل شموط، وناجي العلي، وعارف العارف ومحمد عزة دروزة وأكرم زعيتر وراشد حسين… ويمكن أن نستمر في ذكر الأسماء، ففلسطين أنجبت وأعطت البشرية أسماء لامعة تستحق أن تكون خبز يومنا وشمسه.
نحن إذاً في وضع لا نحسد عليه أبدا، سلطة في غزة لا يمكن أن تفكر بإطلاق اسم غسان أو سواه على أي قاعة مهما كانت صغيرة! وسلطة في رام الله تفعل الشيء ذاته في اختصار فلسطين في اسم واحد، معتقدة بأنها بذلك تخدم فلسطين، والحقيقة أنها تفقرها وتسخِّفها وتُقلل من قيمتها أيضا.
هكذا سنجد أن الهجمة التي شُنت على اسم محمود درويش من قبل أئمة الجوامع في الجزء الفلسطيني الغالي الذي احتُّل عام النكبة، هي صورة أخرى لما يحدث في الضفة وغزة، كما لو أن الخراب إذا أصاب لا يترك حبة تفاح سليمة في صندوق هذه القضية الحزينة، بغضّ النظر عن مدى مجابهة تلك الإجراءات.
مهزلة عابثة، ترفع يافطاتها في كل مكان يجد تنظيم ما فيه موطئ قدم، لا موطئ روح، أو موطئ مستقبل لفلسطين، يافطات تعيد لنا ذلك القول البغيض: شهداؤنا في الجنة، وشهداؤكم في النار! أو: شهداؤنا في الجنة، وقتلاكم في النار! ففي وقت يحتكر فيه طرف شرف الجنّة ويحتكر طرف آخر خلود الدنيا! تبدو فلسطين في الحقيقة أشبه بذلك الطفل الذي تنازعت أمومته امرأتان، وحين أمر القاضي بشطر الطفل نصفين، صرخت الأم الحقيقية، في حين أن شرف هذه القضية يوجب علينا أن نصرخ، لا لأن أحدا شطر أولادنا فقط، بل يتوجب علينا أن نصرخ رافضين أي ضرر يمكن أن يلحق بأي طفل من أطفالنا، وليس الوطن وحسب.
إن كل احتكار حزبيّ للرموز هو تمهيد لإقصائهم من وعينا وضميرنا، ولا يتعلق هذا الأمر بحماس في غزة، ولا بفتح في رام الله، لأن المسألة أعمق من تغيير اسم أو تثبيت بقائه.
من المحزن أننا لم نسمع استنكارا لأي تنظيم آخر، بشأن استبدال اسم غسان بمرمرة، كما لو أن غسان لا يعني سوى الشعبية، وكما لو أن تلك التنظيمات الأخرى تقول: «فخار يكسر بعضه»، وهو فخار فعلا، لأن الواقع الفلسطيني سيظلّ مجرد فخار إذا واصل الاعتقاد أنه أكبر من فلسطين، ففلسطين هي التي تحمي «فتح» وتحمي «حماس» وأي تنظيم آخر، وحين تصل فلسطين إلى ذروة عنفوانها، كما حدث في ثورة 36 وانتفاضتها الحديثة، كانوا كلهم أصغر منها، ولحقوا بقطارها مهرولين، لكن هنالك من يصرّ على أن تكون فلسطين أصغر منه، بإصراره على إعدام شهداء لا يموتون، ومبدعين، سقطت إمبراطوريات لا أشباه سلطات، وتواصل حضورهم في الجمال والضمائر.
فلسطين في متاهات العبث!!
بقلم : إبراهيم نصر الله ... 10.09.2015
المصدر: القدس العربي