ذكرني أخر تحليل إستخباري وعسكري إستراتيجي لزعيم فيلق بدر الإرهابي والقيادي في ميليشيا الحشد الطائفي هادي العامري بقصة جار جحا عندما أراد إستعارة حمار جحا، فإدعى جحا بأن حماره ليس في البيت، وعندها نهق حماره، فقال له الجار، حمارك في البيت وها هو ينهق! أجاب جحا، هل تكذبني وتصدق الحمار يا جاري العزيز؟
جاء في تصريح العامري" أن السبب في حصول مجزرة سبايكر وسقوط الموصل لا يتعلق بالتحقيقات مع ضباط وغيرهم، فهؤلاء مغلوب على أمرهم، لأن السبب الرئيس هم ساحات الاعتصام التي أقيمت في الأنبار عام 2012-2013 "، وطالب العامري بمحاسبة " كل من ساهم في ساحات الاعتصام هذه ودعا إليها، لأنها هي التي مهدت لظهور داعش وسقوط الموصل وإرتكاب مجزرة سبايكر".
لا نعرف لماذا جاء تحليل العامري مباشرة بعد الحصانة التي أسبغها الخامنئي على رئيس الوزراء السابق جودي المالكي مهددا بأنه سيهدم العراق فوق رأس شعبه إذا مست شعرة من شعر أفضل وأعز العبيد إلى قلبه في العراق. ثم وزع أوصاف على المالكي لم يسبق إليها أحد سوى النائب عن حزب الدعوة عامر الخزاعي الذي شبه جودي المالكي بالنبي محمد(ص) بقوله إذا كان الرسول (ص) مسؤولا عن خسارة معركة أحد، فأن المالكي مسؤولا عن خسارة الموصل. ولا نود الدخول في التأريخ لنفهم المعتوه الخزاعي بأن النبي المصطفى لم يصدرا أمرا للرماة على جبل أحد بالإنسحاب من مواقعهم كما فعل المالكي بإصدار أمر إنسحاب موثق، ولا توجد أية علاقة للحدثين ببعضهما، المقارنة بحد ذاتها حماقة كبيرة من الخزاعي تعبر عن مستوى جهله المدقع بتأريخ الإسلام على الرغم من إنتمائه الى حزب إسلامي كما يسمي نفسه. لا يجوز المقارنة بين مسؤولية رسول عظيم يوصل رسالة ربوية إلى العباد مع مجرم إرهابي فاسد نهب البلاد وسبى العباد، ولكننا لا نستغرب هذه المقارنة من حزب عميل مشبوه ولد وتربى وترعرع في مستنقع الشعوبية الآسن.
أبلغ مستشار المرشد الإيراني للشؤون الدولية علي أكبر ولايتي، رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي بتحذير طهران" من محاولة تقديم نائب رئيس الجمهورية رئيس الوزراء السابق نوري المالكي إلى القضاء لمحاكمته بتهم تتعلق بالاجرام والفساد خلال توليه الحكم في العراق لثماني سنوات" ووصف المالكي بأنه" قائد إسلامي عربي تجاوز حدود العراق، فقد كان ندا للرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، ولولا سياساته لاحتل من وصفهم بـالوهابيين كل مناطق السنة بالعراق وانهارت الجبهة السورية وضعف محور الممانعة". مع هذا فأن شيعة السلطة مازالوا يرددون بصفاقة أن نظام ولاية الفقية لا يتدخل بالشأن العراقي الداخلي!
بلا شك عندما يقرأ القاريء الفاضل الخبر فأنه يتوقع بأن العامري بإعتباره ضابطا في الحرس الثوري الإيراني وقائدا في الحشد الشيعي، ووزيرا سابقا وزعيما لكتلة برلمانية سيقدم تحليلا مهما عن أسباب مجزرة سبايكر وإزالة الغموض عن سقوط محافظة نينوى في أغرب مواجهة عسكرية في التأريخ بعد معركة (ترموبيل) عام 480 قبل الميلاد بين ملك اسبرطة ليونيداس والجيش الفارسي بقيادة أحشويرش الأول. وكان الجيش الأغريقي يضم (300) مقاتل فقط، في حين الجيش الفارسي يضم(180000) مقاتل. حيث لم يتمكن جيش المالكي الذي يعادل تعداده جيش أحشويرش الأول من مواجهة (1500) مقاتل من تنظيم الدولة الإسلامية، فتهافتوا كالجرذان ما بين الهروب إلى كردستان العراق أو الموت أو الوقوع في الأسر، مسلمين بكل أمانه أسلحتهم ذات التقنية العالية كما هي جديدة بزيتها دون أن يطلقوا قذيفة أو رصاصة منها وأطنان من الأعتدة تكفي التنظيم للقتال عدة سنوات. والطريف في الأمر، إن قادة المالكي وجنده دائما يتذرعون بشحة السلاح والعتاد!
جاء تصريح العامري بعد أن اكملت لجنة التحقيق البرلمانية تقريرها الذي بقي في التداول ستة أشهر، وخضع إلى مساومات سياسية تابعها الجميع، واوصى البرلمان بطبع التقرير على شكل كتاب ليطلع الشعب العراقي على تفاصيل المأساة. الحقيقة أن التقرير تضمن تفاصيل مهمة لكنه أيضا حابى جهات مختلفة، التهم التي وجهت الى المالكي هي الأغرب مع تحميله جزءا من مسؤولية السقوط، ولأن الهزيمة عسكرية فيفترض أن تكون أولوية المسؤولية على القيادة العسكرية وليس الجهات المدنية أو الذين قاموا بأنشطة بعد سقوط المدينة، التقرير لم يشر الى ان المالكي كان علاوة على ترأسة مجلس الوزراء، كان القائد العام للقوات المسلحة، ووزير الدفاع، ووزير الداخلية والأمن الوطني. كما أن تعبير عدم تقدير المالكي لللموقف لا يتناسب مع حجم المسؤولية الملقاة على عاتقه بأي شكل من الأشكال.
توقعنا أن يحلٌ لنا العامري الغموض الواضح في التقرير ويفكك ألغازه، لا أن يزيد الطيبن بله! تصريحه جاء بمثابة الطامة الكبرى والخيبة الأعظم عندما برأ القيادات العسكرية والأمنية بإعتبارهم "مغلوبين على أمرهم"، وحصر المسؤولية على قادة منصات الأنبار. وهذا يعني إن قرار محكمة الجنايات المركزية بإعدام (24) متهما بقضية سبايكر هو قرار ظالم لأنه حكم على أناس" مغلوبين على أمرهم" حسب دعوى العامري!
تبقى المسألة الرئيسة من يقف وراء سقوط الموصل؟ حيث تباينت التصريحات الرسمية.
1. تقرير اللجنة البرلمانية.
أشار تقرير الجنة التحقيقية البرلمانية كما أوضحنا بأن المالكي يتصدر قائمة المتهمين بسقوط الموصل وهذه بديهة بحكم المناصب العسكرية والأمنية التي شغلها المالكي، علاوة على بقية المتهمين من العسكريين والمدنيين. وقد صوت البرلمان على تقرير لجنته دون قراءة التقرير على النواب، في حالة نادرة في تأريخ العمل البرلماني.
2. تصريح هادي العامري.
إتهم العامري قادة ساحة الإعتصامات ومن خطب على المنصات من الجماهير المضطهدة التي طالبت بحقوق مشروعة بإعتراف المالكي نفسه. مع إن الحكومة هاجمت المعتصمين المسالمين بالدبابات والمدرعات وقتلت وجرحت المئات منهم.
3. تصريح المالكي.
إتهم المالكي اربيل وأنقرة بمسؤوليتهما المباشرة حيال سقوط مدينة الموصل منوها بأن " سقوط الموصل كان مخططا من أقليم كردستان العراق وتركيا". مع إنه سبق أن صرح بأن سقوط الموصل مؤامرة، لكنه لم يكشف عن المتآمرين، أي تستر عليهم وهذه تُعد جريمة حسب القانون. ووصلت به الوقاحة لأن يصرح" لا قيمة للنتيجة التي خرجت بها لجنة التحقيق البرلمانية حول سقوط الموصل". متهما رئيس اللجنة التحقيقية الزاملي بأنه إرهابي وأرتكب العديد من جرائم القتل والخطف خلال وكالته وزارة الصحة ولديه الملفات التي تدينه. وهذه حقيقة الزاملي، لكن إحتفاظ المالكي بالملفات التي تخص الزاملي وعدم عرضها على القضاء حينذاك تجرمه أيضا.
4. تصريح وزير الدفاع
أشار وزيرالدفاع خالد العبيدي في بيان أصدره يوم 20/8 الشهر الجاري أي في نفس اليوم الذي أطلق فيه العامري تصريحه العجيب، جاء فيه "الفساد وقلة الانضباط وتولي العناصر غير الكفؤة سلم القيادة العسكرية، كان سببا في سقوط الموصل بيد داعش، كما أن التقرير الذي أعلنته لجنة التحقيق البرلمانية الخاصة بسقوط الموصل، جاء ليلامس ما كنا قد أشرنا إليه حول نمط أداء الجيش وسرٌ ما جرى في الموصل، كما في صلاح الدين والأنبار، وإن اختلف سياق الحدث أو درجته أو تفاصيله. إن ضعف الأداء، وترهل القيادات، وقلة الانضباط، وتولي العناصر غير الكفؤة سلم القيادة، وضعف التدريب، وانفراط عقد الثقة الشعبية، كانت أسباباً حقيقية للنكسة، الفساد آفة ملعونة نخرت جسد المؤسسة العسكرية وبددت الكثير من ثرواتها وأهدرت فرصها في البناء السليم".
5. إعترافات القادة العسكريين
جاء في إعتراف القادة الأمنيين والعسكرين بأنهم تلقوا أمرا بالإنسحاب من القائد العام للقوات المسلحة، وهذا الأمر يعفيهم من مسؤولية الإنسحاب، لكنه لا يعفيهم من الفوضى التي صاحبت الإنسحاب وترك الجنود ليواجهوا مصيرهم بأنفسهم، علاوة على ترك الأسلحة والعتاد كغنائم لتنظيم الدولة الإسلامية.
6. تصريح البرزاني
رفض المتحدث الرسمي باسم رئاسة اقليم كردستان، في بيان له تصريحات المالكي آنفة الذكر واصفاً اياها" بالهروب من الاسباب الحقيقية التي ادت الى سقوط الموصل، المالكي يتحمل المسؤولية الاولى عن سقوط المدينة". وأضاف البيان" ان المالكي هو المسؤول الأول في المصيبة التي اصابت مدينة الموصل، ولا يستطيع الهروب من هذه المسؤولية بتهم وتصريحات غير مبنية على مباديء واسس، فهو الذي مهد الارضية لداعش بسياساته الخاطئة وعدم اصغائه لتنبيهات رئيس الاقليم". من جهة أخرى ردٌت انقرة باسم متحدثها في وزارة الخارجية التركية على تصريحات المالكي واصفة اياها " بالهذيان لشعوره بالذنب لسقوط الموصل".
بلا أدنى شك يعتبر المالكي المتهم الأول في سقوط الموصل وبقية المدن بغض النظر عن كل ما ورد في تقرير اللجنة البرلمانية، ولكن تقرير اللجنة هو فعلا ليست له قيمة كما وصفه المالكي، لا قيمة له من الناحية القانونية، ومن الناحية السياسية، والناحية الإدارية، فقد حصل المالكي على عصمة الخامنئي، وهذه العصمة لا ينزعها عنه إلا ربٌ السموات، فليس بمقدور القضاء العراقي بل السلطات الثلاث تجاوز توجيهات الخامنئي، الخامنئي يتعامل مع العراق كمستعمرة إيرانية، وهذه هي الحقيقية سواء قبلها البعض أو رفضها.
ما الذي سيحصل؟
السلطة القضائية ستركل التقرير جانبا وتحقق في القضية من الصفر، وطالما أن اللجنة البرلمانية إستغرقت أكثر من ستة أشهر في التحقيق الذي لا يقدم ولا يؤخر وهي أعلى سلطة في البلاد كما يُفترض، فإن القضاء المسيس سيحتاج الى ما لا يقل عن سنتين لإنهاء التحقيق ناهيك عن التأجيل والإستئناف والتمييز وفنون والاعيب مدحت المحمود وأزلامه من رهط المالكي. أي إن القضية ستخضع للإطالة والتسويف والتأجيل والمساومات السياسية، وسيكون عدد المتهمين أو الشهود قد غادر العراق، والبعض منهم حاليا خارج العراق، لذا من الصعب إستحضارهم للتحقيق. كما أن البعض سيغير إفاداته لقاء الوعود والرشاوي أو التهديد من قبل ميليشيات المالكي، وسوف تنتهي القضية عند هذا الحد، وهناك الآلاف من الشواهد والملفات التي أكلتها العثه في أدراج القضاء الهزيل.
مصير القضية يذكرنا بطرفة تتعلق بجحا أيضا.
يحكى أن جحا وعد السلطان أن يعلم حماره حروف الهجاء خلال خمسين سنة بعد أن فشل كبار العلماء والفلاسفة في تعليم الحمار، وكانت عقوبة من يفشل في عمله القتل. تعجب الناس من عرض جحا وهو يعلم نتيجة الفشل، فسألوه عن سبب مغامرته الطائشة هذه؟ فأجابهم: خلال خمسين سنة إما أن أموت أنا، أو يموت السلطان، أو يموت الحمار! واللبيب يفهم الإشارة.
زعماء العراق الجديد وطُرائف جحا!!
بقلم : علي الكاش ... 21.08.2015