لا يكاد يمر يوم في الآونة الأخيرة إلا ويقتل فيه فلسطيني برصاص الاحتلال، تارة من قبل جيش الاحتلال وتارة أخرى من قبل المستوطنين الصهاينة. يتم قتل الفلسطينيين خارج دوائر المواجهات، خارج دوائر الحجارة والرصاص. وواضح من تصرفات جنود الاحتلال أنهم يتسلّون بقتل الفلسطينيين، والشاهد على ذلك أن هناك من قتل داخل بيته أو على سطح البيت دون أن تكون لديه نوايا للمواجهة الحجرية مع الجنود. وفي كل مرة يجد الاحتلال تبريرا لأفعال جنوده الإجرامية، ويبتدع على الدوام أفكارا من شأنها إخلاء المجرمين من مسؤولياتهم.
مؤخرا أقدم المستوطنون على جريمة احتلالية جديدة تمثلت بالاعتداء الناري على عائلة دوابشة في قرية دوما القريبة من نابلس، وأحرق الطفل على دوابشة البالغ من العمر ثمانية عشر شهرا، وأصيب الوالدان بحروق خطيرة جدا، وهما يعالجان الآن على نفقة رئيس السلطة الشخصية وليس على نفقة السلطة الفلسطينية كما تعهد هو أمام العالم.
الاحتلال هو السبب
هب الفلسطينيون بخاصة الرسميين منهم صبيحة يوم الجمعة الموافق 31/7/2015 ضد الاحتلال الصهيوني بسبب إحراق الطفل، وأوسعوه هجوا وشتما وسبابا، وجميعهم حملوه المسؤولية على اعتبار أنه هو الذي يسلح المستوطنين ويضمن لهم حرية العمل بكافة الأشكال في الضفة الغربية. وعندما نقرأ بيانات الفصائل يخيل لنا أنه من المفروض أن يكون الاحتلال مهذبا ومحترما وألا يسمح بمثل هذه الأعمال الإجرامية ضد الفلسطينيين. كل بيانات الفصائل الفلسطينية والتصريحات السياسية تتجاوز تعريف الاحتلال عندما تطالب حكومة الاحتلال بلجم المستوطنين والسيطرة المحكمة على رصاص جنودها. الاحتلال بالتعريف جهة مجرمة ومنحطة ومناقضة تماما لمبادئ حقوق الإنسان ولميثاق الأمم المتحدة والقوانين الدولية والأخلاق الأممية. الاحتلال بالتعريف بغيض وحقير ويعمل ضد الإنسان، ويعرض دائما حياة الناسي ومصالحهم وممتلكاتهم للأخطار. الاحتلال قمعي ومتوحش، ودائما يبتكر أساليب جديدة للسيطرة على الناس ووضعهم في حالة خوف وتوجس أمني، ويعمل باستمرار على إشاعة الذعر والإرهاب في قلوب الناس وصفوفهم. ولهذا يشكل تحميل الاحتلال مسؤولية قتل الناس ومصادرة ممتلكاتهم هروبا من المشكلة. تحميل الاحتلال مسؤولية جرائمه ليس إلا مجرد تأكيد على أخلاق الاحتلال وتعريف الاحتلال، وفي هذا ما لا يجدي نفعا. الذي يتحمل مسؤولية استمرار الاحتلال في ممارسة أعماله القبيحة هو الواقع تحت الاحتلال نفسه ولا يقاوم الاحتلال ليلغيه ويطرده من حياته. والسؤال: إذا لجم الاحتلال المستوطنين هل يصبح مقبولا؟
المقاومة عنوان الردع
شعوب كثيرة وقعت تحت الاستعمار والاحتلال عبر التاريخ، ولم تتحرر من نير الأعداء إلا بسواعد أبنائها الذين حملوا اللواء وواجهوا الاحتلال حتى أحالوا احتلاله إلى جحيم لا يحتمل فقرر الرحيل. بعض الفلسطينيين وأغلب العرب يتحدثون الآن عن مسؤولية الاحتلال الصهيوني عن الجرائم لكنهم لا يتحدثون عن عدم وجود خطة فلسطينية عربية من أجل ردع الصهاينة وإزالة الاحتلال. الاحتلال لا يتوقف عن جرائمه بقوة الأخلاق أو قوة القانون وإنما بقوة الردع التي يمكن أن تواجهه وتجعل من احتلاله أمرا باهظ الثمن. لم يطور الفلسطينيون والعرب خطة بعيدة المدى لمواجهة الاحتلال الصهيوني، وجزء كبير من الفلسطينيين تهالكوا على نيل رضا إسرائيل وكذلك من العرب. لا توجد مقاومة في الضفة الغربية إلا على مستوى فردي أحيانا، ولهذا لا تجد إسرائيل من يردعها، ولا تتردد في ممارسة أعمالها الإجرامية لأنها تعرف مسبقا أنه لا يوجد رد فعل فلسطيني، وإن حصل رد فإنه سيكون باهتا. وهي تدرك الآن أن الساحة الفلسطينية غاضبة على إحراق الطفل، لكنها تدرك أيضا أنه لا يوجد لدى الفلسطينيين القوة الدافعة للقيام بحراك فلسطيني واسع يحشر الاحتلال في زاوية، وذلك بسبب تدهور الثقافة الوطنية لصالح الثقافة الاستهلاكية التمتعية.
فضلا عن ذلك، المقاومة ممنوعة من قبل السلطة الفلسطينية، وتتم ملاحقة المقاومين أو من لديهم نوايا للمقاومة من قبل أجهزة الأمن الفلسطينية، وكم من المقاومين تم اعتقالهم وتعذيبهم من قبل الأجهزة الأمنية الفلسطينية. هناك تنسيق أمني مستمر وكما هو معروف بين أجهزة الأمن الفلسطينية وأجهزة الأمن الصهيونية، وهذا البعد الأمني هو السبب الأول والأساسي في قبول إسرائيل توقيع اتفاقيات مع الجانب الفلسطيني والجانبين المصري والأردني. على كل عربي يريد التوافق مع إسرائيل عبر اتفاقيات عليه أن يتحول إلى حارس أمين على الأمن الصهيوني. هؤلاء الذين ينسقون أمنيا مع الصهاينة ويتعاونون معهم ضد المقاومين الفلسطينيين هم أول المستنكرين لجريمة إحراق الطفل دوابشة، وهؤلاء هم أنفسهم سيواصلون غدا صباحا مهام التنسيق الأمني مع الاحتلال. هم لا يخجلون من الكذب على الناس، وهناك عدد لا بأس به من الناس يستمتعون في الكذب عليهم. أهل السلطة الفلسطينية يكرهون قول الحقيقة، وهناك من يكرهون سماعها ويفضلون البقاء في ضلال مبين.
والمسألة لا تقتصر على التنسيق الأمني وإنما تشمل أيضا الدفاع عن المستوطنين وتوفير الحماية لهم. إذا قذف فلسطيني حجرا على على مستوطن فإن أجهزة الأمن الفلسطينية تهب لملاحقة الفتى الذي قذف الحجر واحتجازه. كانت شوارع وأراضي الضفة الغربية سابقا تحت سيطرة الشعب الفلسطيني، وكان الفلسطيني يتجول في مختلف الأنحاء بأريحية واطمئنان، أما المستوطنون فلم يكن لهم نصيب بالتجوال الهادئ، ولم يكونوا يتحركون إلا بحراسات وبالمركبات. الآن اختلف الوضع. المستوطنون ينتشرون على الطرقات في الضفة الغربية، ويتجولون أحيانا في مواقع طبيعية خلابة دون أن يجدوا رادعا، وهذا كله بسبب التزامات السلطة تجاه أمن المستوطنين والصهاينة عموما.
الذي يترك أبواب بيته مفتوحة يستدعي اللصوص والمجرمين والبغاة لانتهاك البيت. وهذا ما يحصل بالضبط الآن في الضفة الغربية. الأبواب مشرّعة على مصاريعها، والبغاة ينخرون عظام الناس على راحتهم. ولهذا أرى أن المستوطنين هم الذين قاموا بعملية حرق الطفل علي دوابشة، لكننا نحن المسؤولون عن الاستهتار بامن الفلسطينيين ونحن الذين نفتح المجال أمام الصهاينة ليستهتروا بنا وقدراتنا ويمعنون بالاعتداء علينا. شعوب الأرض تقاوم الظالمين والمستبدين والمعتدين، وهذه ليست بدعة وإنما سيرة تاريخية نحن نخرج عنها في هذه المرحلة السوداء من تاريخنا. نحن نريد أن نتحرر من خلال استعطاف الأعداء والتسلح بالضعف والبكاء والعويل. أعمالنا لا تشكل منجاة لنا، بل هي تمد الحبل للصهاينة للتطاول علينا بالمزيد.
التهديد بالقوانين الدولية والمحاكم
القوانين الدولية، أو طريقة اتخاذ القرار الدولي هي التي أوجدت الكيان الصهيوني، وهي التي شردت الشعب الفلسطيني وما زالت تشرده حتى الآن في المخيمات ومختلف بقاع الأرض. مسؤولون فلسطينيون يقولون دائما إن إسرائيل تخرق القوانين الدولية، ولا تلتزم بالقوانين الدولية والشرعية الدولية. هذا صحيح، والاحتلال نفسه مخالف لكل الشرائع الدولية والدينية والأخلاقية والتاريخية. لكن هناك شرعية واحدة تتمسك بها إسرائيل وهي أهم أنواع الشرعية في هذا العالم الذي يفتقر إلى العدل وهي شرعية القوة. القوة هي الأساس وكل القوانين والقيم والمبادئ الأخلاقية تنهار أمام الأقوياء، وأمامنا في هذا العالم أمثلة لا تعد ولا تحصى على صدقية هذا القول. قررت محكمة العدل الدولية أن الجدار الذي بنته إسرائيل غير شرعي، فماذا حصل؟ استمرت إسرائيل في البناء ولم يردعها أحد. والآن أمامنا محكمة الجنايات الدولية، وعلى فرض أن المحكمة قررت إدانة إسرائيل ماذا نتوقع من إجراءات دولية ضدها؟ أنا لا لأتوقع شيئا، وسيكون قرار الإدانة كقرارات أخرى اتخذت على المستوى الدولي. علينا ألا نراهن على المحاكم أو على ما يسمى الشرعية الدولية، ولا رهان أمامنا إلا على سواعدنا. قد يؤثر قرار الإدانة على مكانة إسرائيل في العالم، وقد يساهم في بعض عزلتها، لكنه لن يحرر فلسطين، ولن يعيد اللاجئين. والسؤال الذي يجب أن يكون حاضرا عند تقييم أي خطوة تتخذ ضد إسرائيل هو كيف ستغير الخطوة من واقع الفلسطيني اليومي على الأرض؟ إذا لم ينعكس أي قرار أو خطوة على الواقع الفلسطيني بشيء فهذا يعني أن الشعب الفلسطيني لن يشهد أي تغيير على أحواله. وهذا شبيه بالحكومات التي تشكلها السلطة الفلسطينية وهي تعلم مسبقا أن الحكومات لا تحكم.
نظريات السلطة السياسية
لدينا حجج قوية على الساحة الدولية، وعلى الرغم من قوة الحق وقوة الحجة العربية والفلسطينية لكننا لم نستطع حتى الآن إقناع الدول المعنية باتخاذ إجراءات ضد إسرائيل، ولم نستطع التأثير على مجلس الأمن لاتخاذ قرارات حاسمة شبيهة بتلك التي يتخذها ضد العرب والمسلمين، والسبب أننا اخترنا المتاجرة بضعفنا. لقد بنينا آمالا كبيرة على ضعفنا ظنا منا أن ذلك سيستدر العطف والشفقة علينا فتقرر الدول الاستعمارية الضغط على إسرائيل بتبني عقوبات قاسية. وربما يكون رهاننا على ضعفنا حالة فريدة في التاريخ الإنساني. المعروف تاريخيا أن الأفراد والأمم يبنون قوة لمواجهة التحديات على مختلف أشكالها، لكن الفلسطينيين يحافظون على ضعفهم خاصة في سني وجود السلطة الفلسطينية ليحلوا مشاكلهم. السلطة الفلسطينية حذرة جدا في عملية توحيد الشعب الفلسطيني وبناء استراتيجيات جديدة لاكتساب الزخم الشعبي والقوة اللازمة لردع العدو، ولا ترى مجالا لتحقيق طموح فلسطيني إلا من خلال الاحتلال. ولهذا تعمل دائما على المحافظة على حالة الضعف القائمة الآن في الضفة الغربية، بل وتعميقها أيضا من أجل نيل استحسان الصهاينة ومن يدعمهم من الدول الغربية. هذه نظرية سياسية غريبة وعجيبة، ومن المفروض إدراجها في كتب التدريس الخاصة بطلبة العلوم السياسية.
هناك جدلية لدى السلطة تقول إن منع المقاومين الفلسطينيين من المقاومة ومصادرة أسلحتهم يخدم الشعب الفلسطيني. والتبرير كالتالي: ستغضب إسرائيل إذا اشتعلت المقاومة في الضفة الغربية، وهي سترد بجعل حياة الفلسطينيين صعبة من خلال نشر الحواجز العسكرية من جديد، وفرض منع التجول وهدم المزيد من البيوت والمنع من السفر، الخ. فما هو الأفضل للفلسطينيين: الالتزام بالهدوء وعدم المقاومة، أم تحويل حياتهم اليومية إلى جحيم؟ الجواب هو الالتزام بالهدوء. ولهذا تحرص السلطة الفلسطينية على مصالح المواطنين حتى لو مع بقاء الاحتلال. ونلاحظ هنا أن المصلحة الوطنية الفلسطينية أصبحت مرتبطة تماما مع بقاء الاحتلال. وهذه نظرية سياسية جديدة يجب تدريسها أيضا في الجامعات.
إحراق الطفل علي دوابشة!!
بقلم : د.عبد الستار قاسم ... 05.08.2015