العبث الذي نراه في تعامل كثيرين من أبناء أمتنا من عرب ومسلمين مع الحياة، يشير إلى أن هناك خللا أصاب شرائح واسعة من الأمة في نظرتهم إلى الحياة كقيمة عليا وهبة من الله للبشر.
الحياة، هذه الهبة العظيمة التي مُنحت للمخلوقات من حيوان ونبات ويقف في قمة هرمها الإنسان، الذي «سجد له الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين»، هذا المخلوق تتعامل شرائح من أمتنا معه كحشرة لا قيمة لها، ولا يرمش لبعضهم جفن وهم يرونه يقتل ويداس ويزدرى وينتهك.
يتحمل المسؤولية في هذا طرفان، بالإضافة للاستعمار وجرائمه بحق شعوبنا واستباحة دمائها على مدى قرون، جاءت الأنظمة التي سحقت البشر ولم تُقِم لحيواتهم وزنا حتى انخفضت قيمة الحياة إلى أدنى ما يكون، ثم رجال دين يسمونهم»علماء» (منهم مع ومنهم ضد الأنظمة) ازدروا الحياة، وأطلقوا العنان لثقافة الموت التي تلقى رواجا هائلا حيث تنخفض قيمة الحياة.
الحياة على كوكبنا التي لم يكتشف العلماء شبها لها في الكون حتى الآن، الحياة هذا اللغز المحير، المولود من العدم، هذه الحياة التي أبدعها الخالق، فتتمسك بها حتى الحشرات وتهرب مما يؤذيها وتحمي نفسها بدافع غريزة البقاء، يدوسونها باستخفاف، كما لو كانت أعقاب سجائر.
هناك من يريد لأبناء هذه الأمة أن يعيشوا موتى، أن يموتوا قبل موتهم، أن لا ينظروا إلى الحياة كقيمة تستحق ويجب أن نحياها، يريدون من الناس أن يبدأوا بانتظار يومهم الأخير منذ يوم ولادتهم، أن لا يفعلوا شيئا سوى انتظار الموت، الموت الذي هو حق على كل المخلوقات، وهذا يعرفه المؤمن وغير المؤمن، هناك من يجعله أيديولوجيا، وكأن الموت من صناعة حضرته.
وانطلاقا من أيديولوجيا الموت، ترى من يسمونهم «علماء» يستهترون بالعلم والعلماء والتقدم العلمي، ففي الوقت الذي يحاول فيه العلماء اكتشاف أدوية وعلاجات للأمراض المستعصية للتخفيف من آلام البشر (والحيوانات) يستهتر هؤلاء بقدراتهم ويقزمونها ويمجّدون الموت الذي إليه مآل كل المخلوقات.
يخترع العلماء ما يخدم راحة البشر، ويحاولون اكتشاف أسرار الكون على مسافات تبلغ ملايين السنين الضوئية من الأرض، فيأتي من يستهزئ ويقول «لن يستطيعوا أن يخلقوا بعوضة» وما هي قيمة الكرة الأرضية أمام الكون! نعم يعجز العلماء عن صناعة بعوضة! ولكن هل البعوضة من صناعة حضراتكم أنتم! نعم الكرة الأرضية أصغر من حبة سمسم، وهل أنتم الذين اكتشفتم هذا!
التحدي والتنافس ليس بين علماء البشر وبين خالق الكون، التحدي هو بين علماء يبدعون الحياة ويقدسونها، وبين «علماء» لا هم لهم سوى الاستهتار بقدرات الإنسان وإحباطه واحتقار منجزاته متكئين على حتمية موته!
انظر أيها «العالم» إلى بيتك والعتاد الذي يحويه من الثلاجة والمكيف والهاتف والتلفزيون والحاسوب والكهرباء والسيارة وما لا يحصى من اختراعات! أين أنت منها! انظر إلى الدواء الذي بين يديك، وانظر حتى إلى طعامك واسأل نفسك، ما الذي قدمه علماء الغرب والشرق! وما الذي قدمه مروجو ثقافة الموت مثلك لشعوبهم وللبشرية!
بلا شك أن هناك إنجازات للعلماء العرب والمسلمين، وقد أسهموا إسهاما مهما في حضارة البشرية، وما زال فيهم من يجتهد ويقدم ويبدع (للأسف معظمهم خارج وطنه)، ولكن ليس من خلال ثقافة الموت، بل من خلال ثقافة الحياة والبحث العلمي الدؤوب وليس الاستسلام! نعم أبدعوا في الطب والفلك والرياضيات والجغرافيا وغيرها وعاشوا في الأمل والتأمل والفلسفة والإيمان، ولم يروّجوا كما يفعل «علماء» ثقافة الموت واليأس والاستسلام الذين ينزعجون ويحزنون إذا ما اكتشف العلماء كشفا جديدا، أو إذا تغلبوا على مرض ما، أو كشفوا أحد أسرار الكون! فيسرعون للتسفيه وحتى للسخرية! بلا شك أن هناك رجال دين أجلاء يشجعون العلم ويدعون له ولطلابه ويرونه مكمّلا للإيمان، وليس على تناقض معه، هؤلاء يستحقون الإجلال والاحترام.
أليست ثقافة الموت هي التي تدفع البعض لتفجير أنفسهم وقتل الأبرياء في مسجد أو سوق! أليست ثقافة الموت هي التي دفعت إرهابيا لقتل البريطانيين في تونس! هل هذا رد على سياسة بريطانيا في العراق وسوريا كما يزعم البعض! وهل كان الإرهابي ليفعل هذا لولا أنه لُقن على كراهية الحياة والاستخفاف بها!
الله خلق الحياة ومنحها للناس جميعا، ويريد لنا أن نحياها بجمالها وروعتها وإبداعها، أن نجتهد فيها علما وعملا و(الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة كثيرة بهذا الصدد)، هذه الهبة منحها الله لكل البشر بكل أطيافهم وألوانهم وقناعاتهم وتعدديتهم واختلاف قيمهم، لأنه أراد هذه التعددية أن تكون في اللون والجنس والعرق والفكر والقيم، لتكون الحياة كما يشاء الله، وليس كما يشاء الجاهلون ولا القامعون المجرمون.
فلا للقمع والقتل وقوننته لا باسم الحفاظ على الأمن والنظام وغيرها من مبررات تبدعها أنظمة القمع، ولا لتكريس ثقافة الموت من خلال الاستهتار بقيمة الحياة. إذا ما العمل! ليس أمام أبناء أمتنا سوى التمسك بثقافة الحياة وتقديسها وترويجها والاحتفاء بها ولو كره المجرمون بكل أصنافهم ومصادرهم.
نعم لثقافة الحياة!!
بقلم : سهيل كيوان ... 09.07.2015