منذ احتلال المسجد الأقصى في ثالث أيام حرب حزيران المشؤوم دخل مردخاي غور قائد لواء المظليين 55 انذاك المسجد مع جنوده ورفع علم الاحتلال فوقه، وأخذ مفاتيحه وأغلق المسجد ومنع المصلين من دخوله أكثر من أسبوع، ثم أعاد المفاتيح باستثناء مفتاح باب المغاربة الذي صار باب دخول اليهود للمسجد فيما بعد.
مر منذ ذلك اليوم أكثر من ستة وأربعين عاماً، وما زال الأقصى يتعرض لاعتداءات شبه يومية، تارة يسمونهم متطرفين وتارة معتدلين وتارة رجال دين ورجال أمن ومجانين وعشاق التسامح وإخوة الأديان.
كان آخر هذه الاقتحامات يوم أمس الأربعاء إذ قام المئات من اليهود المتطرفين بعملية اقتحام للمسجد بحجة الرد على محاولة اغتيال الراب الأزعر يهودا غليك، وبحراسة مئات من رجال الشرطة المدججين بالحقد والكراهية وبوعد من الرب بأرض فلسطين كلها وليس الأقصى والقدس فقط.
وطبعا كان هناك عرب ومسلمون مخلّون بالنظام، ولا يحترمون حق العبادة، ولا يعرفون التسامح الديني فرجموا (الضيوف) بالحجارة واشتبكوا معهم، وفيما بعد وقع حادث دهس نفذه عربي مقدسي، ومن المتوقع ان يزداد الأمر توتراً وسوءاً خلال الأيام الساعات والأيام التالية.
من فلسفات الإسرائيليين ان الحرم القدسي أو جبل الهيكل كما يسمونه يتسع للجميع، والإله الذي نعبده واحد فعلام الخلاف! وهذا كلام سليم للوهلة الأولى إذا ما وقع على مسمع انسان منعزل في ريف ما في الصين أو الهند لا يعرف من هم الصهاينة ولا ماذا يريدون!. أما ان إلهنا وإلههم واحد فهذا نعرفه ونقر به، بل هو إله جميع البشر والكون بكل ما فيه، وهذا ما لا يريدون الإقرار به، فهم يحتكرون الإله، ويزعمون انهم شعبه المختار ويحملون الحرية لكل شعوب الأرض، وليس على الأمم سوى شكرهم على مهمتهم الإلهية الكبرى.
الإصرار على احتلال الأقصى وما يسميه اليهود جبل الهيكل يقصد منه الاستيلاء على (الكوشان) الروحي، لترسيخ الإدعاء بأن فلسطين والقدس بالذات هي أرض الصهاينة التي وعدهم الرب بها، وكل الممارسات التي تلي ذلك من طرد ومضايقات للعرب هي شرعية، ما دام انها أوامر إلهية.
ومن عجائب بعض العرب زعمهم بأن تغوّل إسرائيل في عدوانيتها في هذه الفترة بالذات ومهاجمة الأقصى، وإعلانها بوضوح عن نواياها ،وحتى العمل لسن قانون يشرعن احتلاله والسماح لليهود للصلاة فيه، يأتي بسبب انشغال الانظمة العربية الوطنية والقومية والغيورة المعتدلة وغير المعتدلة بمحاربة الإرهاب الذي اجتاحها أو طرق بابها باسم الربيع العربي كي يشغلها عن العدو الذي يغتصب الأرض ويدنس المقدسات، ويُفهم من هذا انه لولا الثورات العربية لكانت هذه الانظمة تصدت لإسرائيل ولقنتها درساً لا ينسى وأرغمتها ان تعمل ألف حساب قبل ان تخطو أي خطوة حمقاء بحق هذه الأمة العظيمة.
والحقيقة ان إسرائيل لم تعمل لهم أي حساب ولا في أي فترة تاريخية سوى في لحظات نادرة، فمنذ عام 1967 لم تتوقف الاعتداءات، وهي في صعود وهبوط وصعود وتأزيم، وأكثر ما فعلوه بالنسبة للأقصى والقدس هو الاستنكار، بل أحيانا تحميل الفلسطينيين مسؤولية ما يحدث لهم ولمقدساتهم مثل تهمة سوء إدارة الصراع ومن ضمنها التطرف.
في العام 1969 تم إحراق منبر صلاح الدين في المسجد وهو تحفة فنية إسلامية، فيما بعد قالت غولدا مئير انها لم تنم أياما إذ توقعت (الهبلة) زحف ملايين المسلمين إلى القدس.
في 28-1-1976 أقرت قاضية في المحكمة المركزية الإسرائيلية حق اليهود بالصلاة في الحرم القدسي، تلت ذلك اعتداءات واقتحامات وحفر انفاق تحت المسجد بهدف البحث عن الصخرة التي سماها نتنياهو (صخرة وجودنا) المقام فوقها الأقصى المبارك (جبل الهيكل)، ولم تتوقف الاشتباكات بين المرابطين والمقتحمين للحرم على فترات متقطعة منذ عام 1967، ويشمل هذا اعتقالات وعقوبات وغرامات على العرب طبعا وسقوط المئات من الشهداء، ثم الآلاف في انتفاضة الأقصى.
كان أوج هذه الاعتداءات دخول شارون إلى الحرم برفقة حاشيته وبحراسة كبيرة، الأمر الذي أدى لانطلاق الانتفاضة الثانية عام 2000 والتي أدت إلى استشهاد أكثر من 4400 فلسطيني وحوالي 50 ألف جريح، ومقتل أكثر من 1100 إسرائيلي وحوالي 4500 جريح، وكان العرب يومها بعيدين جدا عن الربيع العربي، كانوا يعيشون في «نعيم الاكتفاء الذاتي والانتاج وانعدام البطالة، كانوا ينعمون بالحريات وتداول السلطة والخيرات، وسجونهم فارغة من السجناء السياسيين وحتى الجنائيين، وكان العالم كله ينظر بحسد للعمال والكادحين العرب الذين تصلهم حقوقهم كاملة ويعيلون أسرهم بكرامة عروبية أصيلة، كانوا يحصلون على حقوق اجتماعية مثل البطالة والمرض والشيخوخة والإنجاب والسكن الكريم والنقاهة والتعليم والصحة وكل شيء تمام، لم ينقص الوطن العربي يومها إلا ان نسميه جنة الله على الأرض، وأطلق العرب مبادرة السلام العربية التي بادر لها الملك عبدالله بن عبدالعزيز عام 2002، وكان رد شارون الفصيح على المبادرة، بمحاصرة المقاطعة في رام الله والرئيس عرفات فخجل الحكام العرب من الاتصال به والاطمئنان عليه، ونددوا واستنكروا بالهجوم الشاروني حتى تم تسميم عرفات والقضاء عليه فقدموا التعازي الساخنة مشكورين!
ومنذ المبادرة العربية السلمية والعدوان على الأقصى والقدس وغيرها في تصاعد مستمر.
لا أحد يطلب من الانظمة خوض حروب لأجل القدس والأقصى، فتكفيها حروبها ضد الإرهاب وضد شعوبها، ولكن المطلوب منهم ان لا يشاركوا إسرائيل في قمع شعب فلسطين ومحاصرته والتحريض عليه، وان يكفوا عن قمع شعوبهم الظامئة للحرية، وان يرتقوا إلى مستوى دول أمريكا اللاتينية ودول أوروبية في التعامل مع القضية الفلسطينية، وان يسمحوا لشعوبهم باسترداد كرامتها وان لا يتعاملوا مع الناس الغيورين على تاريخهم وحضارتهم ودينهم وأرضهم بأنهم إرهابيون ومتآمرون، قد يكون الأقصى في خطر، ولكن أمة تُركب وتستنزف وتغتصب وتذبح باسم محاربة الإرهاب تارة وباسم تثبيت الدين وشرع الله تارة أخرى فهي في وضع حرج.
الأقصى في خطر ولكن الأمة في حالة حرجة!!
بقلم : سهيل كيوان ... 06.11.2014