مشهد الطعام البسيط منثورًا حول الجثث في ساعة الإفطار الرمضاني يثير الحقد على أولئك الذين يحاولون إقناع العالم أنهم لا يقتلون الأبرياء إلا بالغلط، حتى تجاوزت نسبة «الغلط» أكثر من سبعين في المئة من الضحايا، يريدون إقناع العالم أن صاروخ التحذير لمدة ستين ثانية قبل نسف عمارة هو عمل أخلاقي جدًا، فالفلسطينيون عصافير تستطيع الطيران من النوافذ والشرفات خلال رمشة عين.
أما الحقيقة فنراها في ردود قياداتهم في الحكم وخصوصًا السياسية التي تطمح للارتقاء في سلم السلطة على حساب الدم الفلسطيني، فالسرور حد القهقهة واضح، والحقيقة أنه لا يهمهم تجنب قتل المدنيين بل أن لا يرى العالم قتل المدنيين، بلا شك هناك أصوات إسرائيلية ليست كذلك ولكنها باتت نادرة وهامشية جدًا في مجتمع سادي فاشي كل همّه هو محو الآخر وليس التعايش معه أو إلى جانبه، مجتمع صار على قناعة تامة بأكثريته الساحقة أن كل ساكني أرض فلسطين»إسرائيل الكبرى» من غير اليهود هم غرباء ويجب التخلص منهم بطريقة ما في يوم ما وزمن ما حلقة بعد حلقة، بغض النظر عن الأفكار التي يحملها هؤلاء «الغرباء» سواء كانت يمينا أو يسارًا علمانية أو دينية معتدلة أو متطرفة.
من الطبيعي أن تكون جبهة فكرية ونفسية إلى جانب الجبهة العسكرية، بل هنالك سعي حثيث لكيّ الوعي العربي والإسلامي عمومًا والفلسطيني بشكل خاص.
هناك محاولات ضارية لضرب الأسس الفكرية التي يعتمد عليها المقاوم، الفكر الذي يجعل من المقاوم قادرًا على الصمود بعكس كل الاحتمالات والفرضيات الواقعية الجافة والنظريات العسكرية المبنية بشكل مطلق على أنواع الأسلحة والعتاد والعدة والاستعداد بشكل مطلق.
هذا المقاوم الذي يؤمن بالله وقضائه وقدره، هو إيمان راسخ أيضًا لدى حاضنته الشعبية، وخصوصًا أولئك الذين يرون طائر الموت بالعين المجردة فوق رؤوسهم، هذا الإيمان مصدر قوة، بل ربما هو مصدر القوة الأخير والوحيد لدى المحاصرين على مر تاريخ الحصارات التي تعرض لها الفلسطينيون.
سياسة فرق تسد هي مبدأ أساسي، بل وربما الأهم التي مارسها ويمارسها راسمو سياسة إسرائيل منذ نشوئها، ولكنه ليس فقط التفريق الكلاسيكي المعروف على أسس طائفية ومذهبية وإقليمية وقومية وحتى جنسية، بل أيضًا التفريق على أسس فكرية.
كانوا يضربون على وتر المعتدلين والمتطرفين، حتى أن بعض أبواقهم تساءل هذا الأسبوع» أين رجال فتح في قطاع غزة لماذا لا يضعون حدًا لحكم حماس».
سبحان الله صارت حركة فتح هي حمامة السلام المنشودة، إلا أن كل طفل يعرف أنهم يرون في الجميع أعداءً، حتى الرئيس الفلسطيني مع كل تنسيقه الأمني لم يحصل حتى الآن على شرف لقب «شريك» في عملية «السلام» الوهمية، فهو ما زال داعمًا للإرهاب وسيبقى كذلك حتى لو أتاهم برؤوس قيادات الجهاد وحماس والشعبية وغيرها على صواني من ذهب، فهم يسعون لإضعاف الجميع ومحاربة الجميع والسيطرة والتحكم بمصائر الجميع وهذا أسهل عندما يكون هذا الجميع متفرقًا.
وبما أن الحملة الآن على قوى تعتمد الإيمان ركيزة فكرية، فالمطلوب هو زرع الشك بين الإنسان المقاوم وعقيدته، لهذا نراهم لا يستنكفون عن قصف وهدم وتدمير بيوت وإبادة عائلات خلال الصيام بل وخلال الإفطار أو الصلاة، هذا الإيغال بالدم يقصد منه إلى جانب هذا الحقد السادي الهائل والمريض إثارة الشك بين المقاوم وحاضنته الشعبية من جهة والعقيدة الإلهية من جهة أخرى، يريدون القول للناس أن الإيمان والدين لا يحميكم من الموت، وها نحن نقتل ونفعل ما نشاء وأنتم صائمون، وأن الله الذي تؤمنون به هو معنا نحن وليس معكم. أنتم تطلقون مئات الصواريخ ولا يصاب منا أحد، بينما نحن نلقي قذيفة واحدة نهدم بها عمارة ونقتل ونجرح كل من فيها.
العقيدة في هذه المرحلة من الصراع مستهدفة تماما مثل الجسد والبيت والأرض والفضاء والماء الفلسطيني، وهذا ليس جديدًا، فقد كان الفكر اليساري والإشتراكي والقومي مستهدفا بنفس الشراسة عندما كانت السيطرة له.
الفكر الديني يمنح الناس العزاء، سواء كان ذلك بوعد الشهداء والمساكين بالجنة، أو بالقناعة والرضى بواقع الحال وبالقضاء والقدر والنظر إلى المقاومين على أنهم أناس صادقون لا يبغون من قتالهم مصالح دنيوية، وتجد أن معظم قياداتهم إما أنها استشهدت وإما أنها مستهدفة أو في السجون، هذا الفكر الديني المشترك بين المقاتلين وحاضنتهم الشعبية هو مصدر القوة في مواجهة أعتى آلات الدمار في العالم، وأكثر السلطات استهتارًا بالمواثيق الدولية ومعاهدات جنيف وغيرها. هذا الفكر هو الذي يجعل الغزي شبه العاري المعدم يحمد الله وهو يقف على ركام بيته أو فوق رأس ابنه الشهيد، صحيح أنهم يتألمون ويحزنون مثل بقية البشر ولكن وقع المصائب يكون أخف عليهم من أناس غير مؤمنين وأناس يطرحون السؤال..لماذا وكيف؟! فالإجابة لدى المؤمن موجودة وهي قضاء الله وقدره»الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون».
بلا شك يوجد أفكار دينية مرت بتحولات كثيرة حتى انحدر بعضها وتحول إلى إرهاب، ولكن يوجد فرق شاسع بين عقيدة تُستثمر للصمود ومقاومة العدوان والظلم وبين فكر مشوّه يُســـتثمر لإجل ممارسة الإرهاب.
تسعى عسكرية إسرائيل الآن إلى جانب التدمير بث روح الشك بين المقاوم ومناعته الروحية، فهم يعرفون أنه لو سقط على تل أبيب عُشر ما سقط على قطاع غزة من متفجرات وحل فيها من الدمار ما حل وسقط ربع ما سقط هناك من ضحايا لهاجر مئات الآلاف من الإسرائيليين وبحثوا عن غير هذه البلاد. وبالمناسبة هناك نسبة عالية جدًا من الإسرائيليين الذين يحملون جوازي سفر، واحدًا إسرائيليًا وآخر أجنبيًا للضرورة معظمها أمريكي وأوروبي، وهي ظاهرة معروفة ازدادت في السنوات الأخيرة.
إلا أن ما يسعى إليه «مفكرو» إسرائيل مبني على وهم، والعكس هو الصحيح، فكلما ازدادت الحياة قساوة وازداد العنف والحصار والأذى، ذهب الناس بالإتجاه الذي لا ترغبه العصابة الحاكمة في إسرائيل، لأن الفكر الفلسفي أو فكر الشك والتساؤلات الوجودية هو فكر الناس المترفين، ولا يمكن له أن ينمو في بيئة هي أحوج ما يكون للإيمان الروحي بالغيب والقضاء والقدر وبنعيم الآخرة، ما دام أن هذه الدنيا الفاجرة لم تقدم سوى الآلام والدموع، وبخلت بالمأوى الإنساني والأمن والحرية وحتى بالمياه الصالحة للشرب، نعم هذه هـــي العقيدة ونعم العقيدة التي تجعل من حفنة محاصرة من المقاومين منذ سنين وفي مساحة محدودة تصمد أمام ثلاث حملات عدوانية متتالية أكثر من جيوش جرارة لديها كل المدد والعدد والإمكانيات والمساحات والموارد ولا تحسن سوى دهس شعوبها.
فرّق تسد حتى بين المؤمنين والله!!
بقلم : سهيل كيوان ... 17.07.2014