آن لروح المصلح الدستوري الكبير خير الدين التونسي (1830-1889) أن تهدأ، ذلك أن التونسيين الذين حلم بأن يمارسوا حياة سياسية عصرية قائمة على الانتخاب الحر والدستور وبما يقرر ويرسخ مبادئ العدل، والمساواة، والحرية، يقرون اليوم دستوراً عصرياً ومدنياً بروح توافقية حرة. خير الدين باشا كان مهجوساً بالإرادة الحرة، يكتب ويؤكد أن الرجال الأحرار هم وحدهم من يبنون مجتمعات ودولاً قوية. وقد الْتهم التونسي، القوقازي المولد، العثماني التوجه، التنويري الثقافة، الباريسي القراءات، أفكار عصره، وأدرك أن «أقوم المسالك في أحوال الممالك» يتأتى من انتمائها إلى زمنها، واستيعابها لما انتجته الشعوب والحضارات. وترجمة ذلك كله على صعيد جماعي عريض لا يتم إلا من خلال التعليم، وهناك كان هاجسه التقني الأكبر. تماماً كما كان مجايله المشرقي رفاعة رافع الطهطاوي مهجوساً ومهموماً بالتعليم، كان خير الدين صاحب قناعة تقترب من القناعات الدينية بأولوية تنوير الأجيال وتعليمها. إذ لا ينبني الاقتصاد المتين، ولا الجيش القوي إلا على التعليم، هذا ما كان مترسخاً في وعيه ووجدانه. بيد أن الاقتصاد والجيش القويين ليسا سوى مناخ الحماية لما هو أهم: العدل، والمساواة، والحرية، وهي ما يلهج به السياسي الناشط آنذاك، وهي الروح التي كان يبثها في مستقبل تونس.
دستور تونس ما بعد الثورة الذي صاغه المجلس التأسيسي وثيقة دستورية مدنية تضبط الاجتماع السياسي. وجوانب أهميته عديدة، بعضها وربما أهمها يتعلق بالتمرين والممارسة السياسية والديمقراطية الطويلة التي خاضتها الأطراف والخصوم في هدف الوصول إليه، والجوانب الأخرى تكمن في النص المُنتج ذاته وسماته القانونية والمدنية. وهذا الدستور إنتاج توافقي يمثل خلاصة جدل وسجال وخلاف ووفاق وتنازلات مُتبادلة من قبل الشرائح الأوسع تمثيلاً للتونسيين، وليس وثيقة فوقية صاغها شخص أو سلطة ديكتاتورية وفرضها على الجميع. ويمكن بكل ثقة القول إن الدستور هو وثيقة الشعب التونسي وثورته. وبالتأكيد هناك ما يمكن نقده في الدستور الجديد واقتراح صيغ لمواد أفضل، ولكن الأفضل الخلافي لا معنى له أو فائدة منه، ويبزه الأقل فضلاً والمتوافق عليه.
هنا بالضبط تكمن إحدى فضائل الديمقراطية وهي التمرين الصعب والمرير والمديد على الحوار والتنازل للأطراف الوطنية الأخرى للوصول إلى المساحات المشتركة الوسطى حيث يلتقي الجميع أو معظمهم على قاعدة المشاركة في الحكم. وهذه الممارسة الديمقراطية التي شهدناها في تونس، على اختلالاتها وبطئها وما بثته من احتجاج، بل وحتى حنين للعهد البائد بسبب غموض مساراتها وتعثر إنجازاتها الآنية، هي الجوهر المهم في عملية إنتاج الدستور والتوافق عليه. ففي هذه العملية الطويلة صارت الغالبية السياسية تدرك بالممارسة والمعايشة، وليس بالتنظير الترَفي، معنى السياسة الديمقراطية حيث تتكبل أيادي كل طرف عن البطش بالأطراف الأخرى وعدم إمكانية فرض ما يريد عليهم. وتتحرك الكتلة السياسية الأهم والنخب في قلبها إلى الأمام، ببطء ممل، ولكنه مترسخ على مبدأ جوهري هو «حتمية التعايش» مع الخصوم السياسيين، وهو الأمر المرير -ربما- ولكن الذي لا مناص منه.
التجربة التونسية تنتزع الإعجاب في وسط عواصف الفشل العربي والتشنج والدم المُراق في بعض التجارب المشرقية، والتي أحالت «ربيعها» إلى خريف باهت. والفرادة في التجربة التونسية تكمن في التوافق وكبح جماح الاستئثار بالسلطة أو القرار. ولم يتم ذلك من خلال مسيرة هادئة ووئيدة، بل على العكس كانت صاخبة، ومتوترة، وشهدت فصولاً صعبة، جرتها إلى حواف الهاوية في أكثر من مفصل زمني.
كان على الغنوشي أن يدين بالفم الملآن إرهاب «السلفية الجهادية» التي انتقلت من التكفير إلى التقتيل في تونس. وكان على المنصف المرزوقي ومصطفى بن جعفر أن يدينا الخطاب والممارسة المتطرفين لأصوليي الحداثة والعلمنة في تونس، وهي مواقف لم يكن بالسهولة تبنيها واجتراحها.
وفضلاً عن الآلية والتجربة والسياسة التي عكست نضجاً متطوراً باطراد، هناك النص الدستوري نفسه وروحه المدنية المتميزة. والدستور التونسي الجديد يتشرب معاني المواطنة والمساواة والمدنية والحرية الفردية. ويعكس انهماكاً بحرية الأفراد وكرامتهم والمساواة بينهم، ولا يعكس خوفاً وتوتراً لا حاجة لهما حول الهوية وتعريف الذات. ومنذ منتصف القرن التاسع عشر وسؤال الهوية «من نحن؟» يطرق رؤوس المفكرين والمنظرين والأحزاب الأيديولوجية وصاغة الدساتير المسلوقة، وينهكهم ويضيع جهودهم. ثم أصبح هذا السؤال المفتعل وغير العملي، هو الهاجس الأكبر للحركات الإسلامية التي طفت على الساحة منذ نصف قرن تقريباً. وإحدى المشكلات الكبرى في هذا السؤال المفتوح الذي لا يمكن غلقه لأنه متعلق بالهويات المتغيرة فردياً وجماعياً، أن تناوله دستورياً وقانونياً لابد أن يقود إلى تقنين ودسترة العنصريات الإثنية أو الطائفية. والإجابة الوحيدة الفعَالة عليه هي «المواطنة الدستورية»: كل فرد في الدولة المعنية هويته تتمثل في مواطنته وانتمائه للدولة وفق تعريف دستوري يحدد الحقوق والواجبات، وليس الانتماءات الإثنية أو الدينية أو الهوى الأيديولوجي. والدساتير العربية تورطت في سؤال «من نحن؟» وبدأت به، ثم ارتبكت، وأدى ارتباكها إلى تقسيم مواطنيها بحسب دينهم أو عرقهم. وفي الدستور التونسي الجديد ليس هناك غرق في هذا السؤال، بل تأكيد على مدنية الأفراد ومواطنتهم. وفيه تحييد للدين بطريقة إيجابية وإناطة مسؤولية حماية الاعتقادات والحريات بالدولة، بما في ذلك حرية «الضمير» أي الاعتقاد والإيمان بأي معتقد. وينص الدستور أيضاً، في واحدة من أهم أوجه الفرادة في السياق العربي والإسلامي، على حظر استخدام المساجد للأغراض السياسية.. لعلنا سنرى على أرض تونس ما كان قد كتبه وحلم به وزيرها خير الدين باشا على الورق قبل أكثر من قرن!!
تونس ودستور التوافق!!
بقلم : د.خالد الحروب ... 29.01.2014