كتبت عام 1979 كتابا بعنوان سقوط ملك الملوك (أي سقوط شاه إيران) قلت فيه إن العالم بخاصة العالمين العربي والغربي سيتكالب ضد الثورة الإيرانية من أجل إسقاطها، وقلت إن العرب سيحشدون قواهم من أجل محاربة إيران بدعم من الغرب وبالأخص الولايات المتحدة. في حينه لم يكن نجم إيران قد سطع، لكنني اعتمدت في تحليلي على ما كنت أقرأ من فكر إيراني معارض للشاه، وبالتحديد فكر الإمام الخميني، واعتمدت في توقعي على ما يلي:
1- رأيت في حينه أن القيادة الإيرانية الجديدة لن تخلد إلى مكانتها الاعتيادية في الساحتين اتلإقليمية والدولية، وإنما ستسعى لتكون قوة إقليمية مهيبة الجانب، وقوة عالمية يحسب لها حساب. لم يكن فكر الخميني فكرا راكدا، وإنما كان طموحا متطلعا إلى استقلال إيران، وإلى الرقي بشأنها في كافة مجالات الحياة. كنت أرى أن الإيرانيين يطمحون إلى لعب دور هام على المستوى العالمي، وهذا له متطلبات علمية وعملية وأخلاقية وبنائية.
2- كنت على يقين بأن الإيرانيين سيضعون خطة طويلة الأمد للتطوير العلمي والتقني قناعة منهم بأن من ينشد العلا لا بد إلا أن يكون عالما ومعتمدا على نفسه تقنيا، ولا مجال أمام أي دولة تطمح للاستقلال عن الدول الغربية وتكون صاحبة قرار مستقل ومعتمدة على نفسها إلا تبني التطوير العلمي والتقني. الفهلوة والارتجال والعنجهية والقبلية لم تعد وسائل للتقدم، وإنما هي بحد ذاتها عوامل التأخر والفشل.
3- رأت أنظمة عربية كثيرة إن لم يكن أغلبها أن الثورة الإيرانية ستدفع بالمسلمين السنة إلى شحذ الهمم من أجل إسقاط أنظمة الحكم العربية وإقامة دول إسلامية. هذا بحد ذاته يشكل خطرا على الأنظمة العربية والمصالح الغربية.
4- كانت تصر إيران على موقف حاد ضد إسرائيل وهذا لم يكن ليعجب العرب بمن فيهم منظمة التحرير الفلسطينية لأن غياب إسرائيل يعني غياب قيادات وأنظمة عربية كثيرة. هناك تلاحم أمني عضوي بين أمن إسرائيل وأمن العديد من الأنظمة العربية والقيادات الفلسطينية، وعداء إيران المعادية لإسرائيل كان بمثابة دفاع عن الذات. ربما لم يكن نظام صدام حسين ضمن الأنظمة المحمية بإسرائيل، لكنه كان من الغباء ما يكفي ليتحمل وزرا تاريخيا في خوض حرب استنزفت العرب وإيران.
5- العرب لا يحبون المستقلين والأقوياء من المنافسين الداخليين أو من أهل البيت. إيران من أهل المنطقة، وقوتها تعني زوال وهج بعض الأنظمة العربية وسطوتها على الشعوب، وفي التراث العربي ما يؤكد استعانتنا بالأجانب ضد أهل البيت الأقوياء، ولا مانع من الاستعانة بأمريكا وإسرائيل. نحن العرب نحب أن تبقى كل الدول العربية ودول الجوار ضعيفة حتى لا تظهر عوراتنا. القوي والأمين والصلب والمخلص في الوطن العربي يكشف عورات الآخرين من الجبناء والضعفاء والضالين والخونة.
6- قوة الجار تكشف العورات وربما تحرض جماهير العرب للانقلاب على النظام القائم علّ في التغيير ما يؤدي إلى اكتساب القوة وتحقيق الاحترام العالمي. هذا لا ينطبق على إسرائيل لأنها عنصر أساسي في حماية الأنظمة العربية.
قلت في حينه إن العرب سيشنون حربا على إيران، وأن إيران ستطرد منظمة التحرير من طهران. للأسف قد حصل.
*التاريخ يصنعه الأقوياء وهو لهم
لم أغفل في حينه عن الفتنة السنية الشيعية ، وقلت إن الدول الغربية وعددا من الأنظمة العربية والفاسقين من مشايخ أهل السنة والشيعة سيؤججون صراعا سنيا شيعيا من أجل إخراج إيران من المعادلة الإقليمية. هذه الفتنة هي أخطر ما يمكن أن يواجهه العرب والمسلمون. لدى رجال السلطتين السياسية والدينية في الساحة العربية الاستعداد لإحراق الأخضر واليابس وقتل روح العزة والكرامة من أجل البقاء في السلطة. ليذهب العرب، وفق أعمالهم والمسلمون إلى الجحيم في سبيل البقاء في السلطة والتربع على خيرات الأمة وأموالها.
معايير القيادة في الساحة العربية الإسلامية
معايير القيادة في كل أمة متنوعة وعديدة، والقائد الذكي هو الذي يعرف أصول القيادة ويعمل على تطبيقها. وهناك أدبيات وكتب وأبحاث كثيرة في هذا المجال، وبإمكان من يرغب في قيادة أمته إلى الأمام أن يفيد منها. إنما في الساحة العربية الإسلامية أشير إلى المعايير التالية كأهم نقاط يأخذها العربي والمسلم في تمسكه بقيادة معينة:
أولا: الموقف من إسرائيل تحديدا والولايات المتحدة بعد ذلك. من الصعب لقائد عربي أو مسلم أن يتصدر المشهد القيادي إلا إذا كان له موقف واضح وحقيقي ضد إسرائيل على اعتبار أنها تغتصب أرضا عربية إسلامية لا يمكن التنازل عنها. هناك أفراد عرب يعترفون بإسرائيل ويقيمون علاقات معها لكنهم أقلية، وأغلبهم من الموالين للأنظمة العربية التي تتعامل مع إسرائيل. الغالبية الساحقة من العرب والمسلمين لا تعترف بإسرائيل، ولديها الاستعداد للعمل ضدها سياسيا ووجوديا. أما الولايات المتحدة فهي رمز الاستغلال والهيمنة والإذلال، ويصعب على أي شخص البروز قياديا إن لم يتحد الهيمنة الأمريكية في المنطقة. وربما الموقف من أمريكا وإسرائيل ما جعل رئيس فنزويلا الراحل هوجو شافيز بطلا قوميا عربيا.
ثانيا: العمل الدؤوب على إحراز التقدم في مختلف العلوم والآداب، والنهوض بالأمة ثقافيا وفكريا. الأمة العربية وكذلك الإسلامية متخلفتان علميا وثقافيا، وهما خلف الأمم، والأمم لا تنهض إلا بالعلم وبناء الجامعات العظيمة والتركيز على البحث العلمي والتطوير الاقتصادي. القائد يكسب الثقة إن حقق إنجازات في هذا المجال.
ثالثا: إقامة العدل بين الناس. الحكام العرب والمسلمون ظلمة جهلة بغاة زناة، وأشاعوا الظلم والاستعباد والإذلال. لقد أنهكوا المواطن وقتلوا فيه العزة والكرامة، وأخضعوه لكافة أنواع العذاب، ووظفوا أجهزة الأمن المتنوعة لملاحقته وقذف الرعب في قلبه. القائد الحقيقي هو الذي ينهض بالمواطم ويعزز لديه الاحترام الذاتي، ويطمئنه بأن حقوقه محفوظة ومحترمة وأن هناك من يسهر عليها.
رابعا: توزيع الثروة. يندرج هذا البند تحت مسألة العدالة، لكن إفراده مهم بسبب استحواذ الحكام العرب والمسلمين على الثروات وتكديس الأموال والحسابات المصرفية. الحكام حرموا الناس، ووضعوهم في حالات مريرة من العوز والفاقة. والأهم أن الثروات لم تستغل من أجل البناء والتقدم واكتساب القوة وإنما من أجل الهمالة في بارات ومواخير أوروبا.
خامسا: الابتعاد عن الخطابات الرنانة والوعود الكاذبة. شبع المواطن العرب والمسلم كذبا من الحكام العرب والمسلمين. كم من الوعود أطلقها الحكام، وكم من الهزائم تحققت في مختلف المجالات العسكرية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
سادسا: العمل على وحدة الناس وإشاعة روح المحبة والوئام والتعاون فيما بينهم. أغلب القادة العرب والمسلمين تمسكوا بتمزيق الناس لكي تسهل قيادتهم. لقد استعملوا الأوراق القومية والدينية والمذهبية من أجل التفتيت وبث الكراهية بين صفوف الناس، فأضعفوا الأمة ووضعوها في مثل هذا الوضع المتردي الذي نراه الآن. حرص الحكام العرب والمسلمون دائما على إقامة علاقات مجتمعية تقوم على الشك وليس الثقة وذلك لكي لا يتعاون الناس فيما بينهم.
*أين إيران من هذه النقاط؟
إيران حققت إنجازات كثيرة في معايير القيادة. حققت إنجازا كبيرا في معاداة إسرائيل وتحدي إرادة الولايات المتحدة. وهي تحقق إنجازات علمية متسارعة، واختراقات تقنية جوهرية، وقريبا ستصبح مصدرة للعلوم. طورتت تقنية نووية وفضائية وطبية هامة، وقدرات عسكرية لا يستهان بها، وهي باتت قادرة على تحدي من يهدد أمنها وسيادتها. وهي قدمت دعما حيويا جوهريا للذين يتحدون إسرائيل في لبنان وغزة، وتمكنت المقاومة العربية الإسلامية من الصمود بوجه الحروب الإسرائيلية بفضل الدعم الإيراني المالي والعلمي والعسكري.
وحققت إيران إنجازا في مجال المحافظة على أموال الشعب الإيراني، ووظفتها بالطريقة التي يستفيد منها شعب إيران. لم نر شيخا أو حاكما إيرانيا يتمرغ في قاعة قمار في لاس فيجاس، ولا في بار في مونت كارلو.
إيران ما زالت دون المستوى المطلوب في إقامة العدل المطلوب بين كل فئات الشعب الإيراني، وما زال مطلوب منها توسيع دائرة حريات الناس مع الحرص على أمنها القومي من العبث الإسرائيلي والأمريكي والعرب. هناك تمييز في إيران بين سني وشيعي، ومن المهم أن يتوقف هذا لكي يقتنع الناس بان العدالة الإسلامية هي سيدة السياسة الداخلية والخارجية. وبإمكان إيران اتباع سياسات تعطل سياسات الصد عن الإسلام التي تتبعها فئات إسلامية إجرامية عدة.
في إيران، العلماء محترمون ويحظون بمعاملة تليق بهم.
لم تلجأ إيران إلى الخطابات الرنانة إلا بعض الشيء في عهد الرئيس نجاد. الخطاب الإيراني إجمالا هادئ ورصين ويستند إلى معطيات حقيقية. لم يكن نجاد مقنعا على الساحة العربية الإسلامية، لكن السياسة العامة الإيرانية لا تقوم على التبجح أو الكلام الكبير الذي لا تسنده قوة. كلامهم وخطابهم على قدر قدراتهم.
أين قادة العرب من هذا؟ قادة العرب يتسابقون إلى التخاذل والمذلة وظلم الناس ونهب ثرواتهم. وهم مشغولون بالفساد والإفساد وكسب ود إسرائيل وأمريكا. هؤلاء هم الذين يعترفون بإسرائيل، وهم الذين صادقوا على مبادرة بيروت لعام 2002ن ويصعرون خدود الأمة لأعدائها. هؤلاء مشغولون الآن بملاحقة المقاومة اللبنانية والفلسطينية من أجل القضاء عليها، وهم يبحثون دائما عن وسائل وأساليب لبث الفتنة بين المذاهب والأديان والقوميات في الساحة العربية والإسلامية. وللأسف عجزت الحكومات العربية التي يقودها إسلاميون عن تقديم نموذج عربي جديد. الرئيس مرسي لم يكن له موقف رجولي من إسرائيل وأمريكا، أما تونس الإسلامية فتطرد ممثل حزب الله من أراضيها وترفض إعطاء ممثل الجهاد الإسلامي الفلسطيني تأشيرة دخول. والمؤسف أيضا أن هناك من يتشدقون بالإسلام ويهاجمون فيه أهل الشيعة في الوقت الذي يقيمون فيه علاقات مع إسرائيل. كيف يمكن أن يكون هؤلاء قيادات حقيقية؟ أما مصر التي ترغب أن تسمي السيسي بعبد الناصر الجديد لم تجرؤ بالتلفظ كلمة واحدة ضد كامب ديفيد، ولم تستقو إلا على المقاومة الفلسطينية في غزة وأغلقت في وجهها السبل.
الدولة العربية الوحيدة المؤهلة لقيادة من نوع ما هي لبنان لأنها هي الأقوى في مواجهة التحديات الخارجية. لكن مشكلة لبنان أن القوى المدعومة من قبل أنظمة عربية وإسرائيل وأمريكا تشكل عبئا كبيرا على المقاومة الإسلامية بقيادة حزب الله، وتصر على إضعاف لبنان وإبقائه وكرا لمختلف أجهزة المخابرات العالمية.
النتيجة: لا يستطيع أحد قيادة أمة بالفتن والمؤامرات. قيادة الأمة تحتاج إلى سهر وتعب وجهد وإخلاص وأمانة. هناك فارق هائل بين المختبر والبار، بين البناء والهدم، بين التقريب والتفريق. بين الشهوانية والالتزام، بين التشنج والانفتاح. نحن لسنا مسيحيين ومسلمين وشيعة وسنة وكرد وعرب، نحن مواطنون، والقائد الحقيقي هو من يتعامل مع الناس على هذا الأساس. قادة العرب الآن بمن فيهم قادة الثورات العربية لن يحصدوا إلا الهزيمة والخزي والعار إلا إذا غيروا ما هم فيه. ولا أظنهم فاعلين.
إيران ستقود العالم الإسلامي!!
بقلم : بروفيسور عبد الستار قاسم ... 08.01.2014