الحقيقة جميلة مهما كان مصدرها وهي تعكس أحيانا حالة من الصراع النفسي بين ثلاثة إتجاهات هي قول الحق أو السكوت عنه أو الأخذ بالباطل، وهي سرعان ما تطفو على اللسان فتحركه سلبا أو إيجابا إذا اعتبرنا ان السكوت عن الحقيقة يعد باطلا، توافقا مع الحكمة الرائعة بأن "الساكت عن الحق شيطان أخرس". الحقيقة قد تكون حالة إستثنائية لمن يقولها، ولا يقتصر قولها على الحكيم والعارف والمؤمن والتائب، فكثير من القتلة والخونة واللصوص والعملاء والدجالين والمجانين قد يتفوهوا بالحقيقة لأسباب متباينة، لكن هذا لا يعني إنهم جميعا قد استفاقوا من غفوة الشر والدجل الكامنة في أعماقهم، أو رغبة منهم في إصلاح أحوالهم السيئة والعودة إلى جادة الصواب. قول الحقيقة يرتبط إرتباطا وثيقا بالنوايا. فإن كانت النوايا صادقة كانت الحقيقة مطلقة، وان كانت النوايا غير صادقة، كانت الحقيقة جزئية.
ومن هذا المنطلق سنناقش التصريح الأخير للسيد مقتدى الصدر، وارجو ان لا يفهم من سياق العرض بأنه دفاعا عن الصدر او تبرئة ساحته الموحلة بدماء الأبرياء من ضحايا جيشه المعتل، ولا تنزيها له من الفساد الحكومي الذي كان سببا مباشرا لإستمراره من خلال دعم المالكي خلال الدورتين السابقة والحالية، الصدر جزء حيوي من العملية السياسية سواء من خلال مشاركة تياره في الحكومة أو مجلس النواب، ولولا مواقف الصدر الداعمة للمالكي لما إستمر التماس بين مقعده ومقعد الكرسي ولأزيح بسهولة، وكلنا يستذكر مهلة المائة اليوم والإستفتاء المليوني للإصلاح السياسي وغيرها من المشاريع الصدرية التي كانت حبرا على ورق. من جهة أخرى يبدو ان الصدر يعي جيدا بخطورة الفايلات المعدة من قبل المالكي لنسف مكانته ومنها ملف مقتل مجيد الخوئي الذي تم بإيعاز من الصدر. علاوة على قتلى السدة(سدة ترابية في مدينة الصدر هي مقبرة للقتلى من ضحايا جيش المهدي) منهم موظفي البعثات ورئيس و أعضاء اللجنة الأولمبية والمئات غيرها. وهذا يفسر التآلف الجديد بين المالكي وقيس الخزعلي وواثق البطاط، كبديلين عن الصدر، والإستعاضة عن ميليشيا جيش المهدي بمليشيا عصائب أهل الحق، وجيش المختار.
التصريح الذي أدلى به مقتدى الصدر مؤخرا كان شوكة موجعة في مؤخرة حكومة المالكي والتحالف الشيعي بأكمله سيما إنه تزامن مع زيارة جزار بغداد إبراهيم الجعفري رئيس التحالف الشيعي لطهران وإشادته بدور إيران المزعوم في إستقرار العراق. خلال زيارته الجعفري في نهاية شهر كانون الاول 2013 صرح بأن إيران "دولة صدیقة وشقیقة! وأن تعزیز العلاقات والتعاون بین ایران والعراق باعتبارهما بلدین جارین هامین کبیرین یتمتع باهمیة بالغة للعراق". مضيفا بان "ايران قد لعبت دوما دورا بناء في ارساء الاستقرار والهدوء في العراق طوال الاعوام الصعبة الاخیرة، وإن التشاور والتعاون بین البلدین في اطار استتباب السلام والاستقرار الاقلیمي یجب ان یتعزز اکثر من ذي قبل". عميل متفرس مريض نفسيا وحاقد على كل شيء ما عدا إيران!
أما الحقيقة التي عبر عنها مقتدى الصدر في تصريحات لصحيفة الحياة اللندنية الني نشرتها في 22/2/2013 فقد جاء فيها أن قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني هو الرجل الأقوى في العراق، وأنه صاحب مبدأ بالنسبة إلى قضيته وجمهوريته وحكومته ومذهبه". وأضاف بأن العرب" ينظرون إلى الحكومة العراقية كحكومة طائفية يصعب التعامل معها، لا سيما أن القرار فيها موزع على الأحزاب ويمكن وصفها بأنها ليست صاحبة القرار الحقيقي بل هناك قرار إقليمي غربي وشرقي، وأنها تميل إلى الجانب الإيراني". هذا أهم ما ورد في تصريح الصدر الذي أثار زوبعة في فنجان حكومة المالكي، واوكلت مهمة الرد إلى سمسار التحالف العاهر سامي العسكري القيادي في دولة اللاقانون.
كالعادة كانت السعودية ودول الخليج القربان الذي ضحى به العسكري في محراب ولاية الفقيه، فإن عطس المالكي كان السبب فيروس تركي أو سعودي، وإذا زلقت قدمه بقشر موز إتهم هذه الدول بأكل الموز ورمي القشر التكفيري في طريقه، وإذا شعر بالبرد قال رياح إرهابية سلفية، وإن شعر بالحر قال هجمة صيف ظلامي وهابي. لذا لاعجب في أن يعلق المالكي وطفيلاته خرفة فشل حكومته على شماعة دول الخليج. خلال مؤتمره الصحافي في كربلاء في احياء ذكرى اربعين الامام الحسين قال المالكي "هذا المخطط تقف خلفه دولة لا تملك اي رحمة(...) ولا تعارض الظلم على شعبها، ولا تملك اي لون من الوان الديموقراطية والحريات(...) لكنها تتحدث عن سوريا والعراق ولبنان وتتحدث عن الحرية وعن الديمقراطية". ولا يصعب إملاء الفراغات بين الأقواس! أما نصيحته لدول الخليج " نقول لهم امنحوا الحريات لشعوبكم اولا"! فيمكن التعامل معها كمزحة طريفة من المالكي!
عقب النائب العسكري على تصريحات الصدر بقوله" هذه التصريحات فيها مناغاة ومغازلة للوضع الاقليمي العربي، وإن مهاجمة ايران بهذا الشكل من قبل شخصية دينية في هذا الوقت ليس لها تفسير سوى الاصطفاف مع السعودية وحلفائها ضده". مضيفا بأن "السعودية تشعر بالقلق من التقارب الاميركي الايراني وبالتالي فهي تريد ان تحشد كل قواها ضد ايران". ربما لو لم نذكر قائل التصريح لخُيل للقاريء الفاضل بأن هذا التصريح صادر من الناطق بأسم الخارجية الإيرانية، أو رئيس الحرس الثوري الإيراني، أو نائب إيراني وليس نائب عراقي! دولة القانون أخذت بقول سيدهم بوش فأما معي أو ضدي، لذلك العسكري ليس عنده حل وسط أما مع دولة القانون أو مع السعودية!
لكن هل حاد الصدر عن الحقيقة في تصريحة الذي ربما جاء عفويا أو زلة لسان(جفصة) كما يسميها هو؟ لأننا على ثقة بأن الصدر كالآخرين بيدق على رقعة شطرنج الولي الكريه. وهل أتى الصدر بما لم تأتِ مثله الأوائل؟ وهل الشعب العراقي لا يعرف العراق بقبضة من؟ وهل حكومة جودي وبرلمان النجيفي لا يدركان هذه الحقيقة؟ وهل نسينا كيف توجه رئيس البرلمان العراقي خلال زيارته لطهران كالخروف لمراسم عزاء والدة مجرد جنرال في ميليشيا الحرس الثوري؟ وهل نسينا بأن الرئيس الميت الحي الطالباني كان يلتقي بسليماني ويتلقى التوجيهات منه في شمال العراق.
لنترك تصريح الصدر جانبا وتأخذ ثلاث وجهات نظر من مصادر مختلفة حول دور إيران في العراق بشكل عام، ودور سليماني بشكل خاص.
ولنبدأ أولا بدول الإستكبار العالمي بإعتبارها هي التي سلمت الحثالاث قيادة هذه البلد المنكوب. فقد سبق أن صرح المندوب السامي الأمريكي زلماي خليل زادة بأن"ان قاسم سليماني هو الحاكم الفعلي للعراق". وجاء في صحيفة(واشنطن بوست) بأن" سليماني من أهم صناع القرار في السياسة الخارجية الإيرانية، وإنه يتدخل بشؤون العراق الداخلية، وله دور في زعزعة الأمن". كما ذكرت صحيفة(الإقتصادي) بتأريخ26/11/2009 بأن" إيران تنسق مع الحكومة العراقية من خلال الجنرال سليماني الذي غالبا ما توفده للعراق، ولا يستبعد إن إلتقى بالسفير الأمريكي كريستوفر هيل أو ريمون أودييرنو قائد القوات البرية في العراق".
لذا فإن سيطرة إيران على مقدرات العراق السياسية والإقتصادية والأمنية والثقافية والدينية معروفة للعالم الغربي. فقد أكدت صحيفة الغارديان البريطانية في تقرير لها خلال شهر تموز 2012 جاء فيه " إن العقيد سليماني هو من يدير العراق بصورة غير مباشرة". ونشرت صحيفة الغارديان في29/7/2011 بأن" التفوذ الكبير لسليماني في العراق، جعل العراقيين يعتقدون بأنه هو الذي يحكم العراق سرا". وفي مقال آخر لصحيفة (واشنطن بوست) صنفت سليماني " كأحد الإرهابيين وإنه ضحى بحياة العديد من العراقيين من أجل مصالح بلده". وكشفت صحيفة الغارديان في تصريح آخر بأن" الجنرال ديفيد بترايوس تلقى رسالة من سليماني فيها تهديد واضح ونصها( يجب أن تفهم بأنني قاسم سليماني الذي أدير السياسة الإيرانية في لبنان وإفغانستان وغزة)"! ومن الجدير بالذكر إن وزارة الخزانة الأمريكية جمدت أرصدة سليماني بسبب إتهامه بمقتل السفير السعودي في واشنطن.
لنستعرض وجهة النظر الثانية من سليماني نفسه. فقد تناقلت وكالة إيسنا شبه الرسمية لقائد فيلق القدس الايراني الفريق قاسم سليماني خلال ندوة تحت شعار الشباب والوعي الاسلامي التصريح التالي " ان ايران حاضرة في لبنان والعراق، وهما يخضعان بشكل أو آخر لإرادة طهران وأفكارها. وبإمكان إيران تشكيل حكومات إسلامية في هذين البلدين وكذلك تحريك الأوضاع في الأردن". وبعد الهجمة العدوانية الشرسة على معسكر أشرف بالتسيق بين حكومة المالكي وقاسم سليماني حيث أديرت العمليات في السفارة الإيرانية في العراق بإشراف السفير(حسن دانائي فر) الذي كان مسؤول الإستخبارات في حرس القدس، وضابط سابق تحت أمرة سليماني، أوردت وكالة أنباء فارس نص الكلمة التي ألقاها اللواء قاسم سليماني في اجتماع مجلس خبراء القيادة، حيث أشار المصدر إلى أن اللواء سليماني" تطرق في الاجتماع الى الاوضاع في العراق وحادث معسكر اشرف، والذي قتل فيه اكثر من 50 من عناصر زمرة (المنافقين) بمن فيهم عدد من قيادييهم، وفقدان 10 عناصر، وأنه وصف هذه القعملية بأنها كانت اهم من عمليات المرصاد". وقد أعتبر مرشد الثورة علي خامنئي سليماني (الشهيد الحي للثورة)" وقد منحه قبلها رتبة فريق لنجاح دوره في العراق وإفعانستان ولبنان وبقية الدول العربية. إن يشيد به الخامنئي أمر منطقي ومعقول لأنه خدم بلاده بإركاع العراق وإفغانستان ولبنان وسوريا تحت قدميه، لكن أن يشيد به شراذم العراق فهذا ما يصعب هضمه!
والآن لتأخذ وجهة النظر الثالثة وهي صادرة من أعلى مرجع أمني سابق في العراق وهو موفق الربيعي مستشار الامن القومي العراقي السابق، خلال مقابلة مع صحيفة الشرق الأوسط في تموز عام 2010 ذكر"أنّ الضابط الايراني قائد الحرس الثوري قاسم سليماني هو المتحكم في الملف العراقي. وأن هذا الضابط يدافع عن مصالح إيران القومية، وبالتالي يرى كل المنطقة من خلال هذا المنظار". ومن الجدير بالإشارة إنه في كانون الأول 2008 ألقت أجهزة الأمن المصرية القبض على أربعة إرهابيين اعترفوا بأن قائد فيلق القدس الإيراني اللواء قاسم سليماني قد منحهم جوازات سفر عراقية وأمرهم بإنشاء شبكة استخباراتية داخل الأراضي المصرية. الجنرال سليماني يمنح جوازات سفر عراقية! ماذا يعني هذا؟
هذا هو الوضع الحقيقي للعراق، وهذه هي المكانة الحقيقية لسليماني ودوره في العراق، إنه صاحب اليد الطولى في تدمير البلد وهو الذي يهيج عواصف الإرهاب كلما هدأت. الجميع يدركون الحقيقة، والجميع ضربوا على نفس الوتر بنغم واحد، ومن لم يصرح به علنا إنما يهدس به سرا، بسبب الخوف فإذا رفع الولي الفقيه عصاه في إيران إرتعدت فئران العمالة في العراق ودخلت جحورها.
إذن ما الذي جاء به الصدر لكي تتحرك الديدان الشريطية في أمعاء العسكري مسببة هذه الحكة القوية؟
لم يكن الصدر منصفا في قول الحقيقة كاملة، فسليماني لا يحكم العراق فحسب، بل إفغانستان وسوريا ولبنان وأجزاء من اليمن والبحرين والكويت والأردن. وبطقة أصبع واحدة يوقظ خلاياه النائمة في دول الخليج ويجعل عاليها نازلها.
لقد سمع الجميع الإتهامات العراقية للجهات التركية والسعودية والقطرية عن دعم الإرهاب في العراق، لكن هل سمع أحد قيام مسؤول عراقي بنقد الدور الإيراني الإرهابي في العراق أومجرد عتاب والعتاب جائز بين الأحباب؟
نتحدى نواب الفقيد رئيس الجمهورية، ورئيس الوزراء جودي ونوابه، ورئيس البرلمان نجيفي ونوابه، وكل الوزراء والمسؤولين، والحوزة العلمية في النجف والصحف العراقية جميعا والتقابات والإتحادات العراقية كلها، بأن يوجهوا إنتقادا علنيا للنظام الإيراني أو يشيروا لدور قاسم سليماني في العراق؟ ومن النتيجة سوف نستشف من الذي يحكم العراق فعلا؟
العراق الجديد..شعب لا يتأفف وحكام لا تتعفف!!
بقلم : علي الكاش ... 25.12.2013
كاتب ومفكر عراقي