أذكرها جيدًا عندما كانت تزور والدتي قبل وبعد أن تنجب فردًا جديدًا للأسرة، فهي كانت قابلة القرية، تزور الوالدة والمولود كي تطمئن عليهما وتقوم بما يجب تجاههما من أمور صحية، أذكر مشهد فرك جسد المولود الجديد بالملح وتحميمه باللجن وتكحيله وتدريب الأم على التعامل معه.
كانت ممتلئة جدًا وتتحرك بتثاقل، كحيلة العينين أبدًا،على ذقنها وشم من عدة نقاط، كانت كتلة من الحنان، الابتسامة لا تفارق ثغرها أبدًا، مرحة، تتقن اصطياد اللحظة لإثارة الابتسامة والضحكة.
كانت عندما تأتي إلى والدتي أو حين تراني في الطريق تقول لي بتحبب ‘تعال لهون…تعال أبوسك يا ابن ال…..’. فأقترب منها لتقبّلني وتضمني بحنان كبير.
كنت أدعوها عمتي شيخة، فهي ابنة عم والدي، وهي متزوجة في عائلة أخرى من عائلات القرية. لم يقتصرعملها على وظيفة القابلة، فقد كانت تتقن بعض الأمور المخففة للألم الجسدي، كانت محترفة في رفع اللوزتين،تدخل أصبعها الغليظة شديدة السّمرة في حلق المريض فترفعها له، أو تشله من أذنيه أو شعره من زوايا مختلفة، كذلك كانت خبيرة بالرقى للطفل الذي تصيبه العين، وبالحجامة، وكان لديها وصفات من الطب الشعبي لأوجاع شتى للأطفال والنساء والرجال.
تغيرت الدنيا وصار الوصول إلى المستشفيات سهلا، وتراجع دورعمتي شيخة كقابلة. هرمت، ولم تعد تخرج الى الناس وما لبثت أن رحلت، ولم تبق علاقة خاصة بين أحفادها وبين أبناء عائلتنا، سوى (المرحبا)، مثل أي علاقات قروية أخرى، وكاد ينسى الأحفاد هذه القربى واقتربت من الاندثار إلى أن…
في الانتخابات البلدية التي تدور رحاها في القرى والمدن داخل الخط الأخضر في هذه الأيام، ظهر(الفيسبوك) وغيره من شبكات تواصل اجتماعي كوسيلة للدعاية والنقاش بين فئة الشباب حول أي المرشحين الأربعة في قريتنا هو الأفضل للرئاسة؟ أيهم يستطيع إخراج القرية من أزمة الخدمات، ومن يستطيع إغلاق الديون المتراكمة المقدّرة بعشرات الملايين على المجلس البلدي، من يستطيع مواجهة السلطة العنصرية وتحصيل الحقوق من خلال المهنية العالية والخبرة في القوانين والعمل البلدي والنوايا الصادقة ونظافة اليد، فقد عانت قريتُنا في العقدين الأخيرين تراجعًا في الخدمات والمشاريع، وفُقدت الثقة بين المواطن والسلطة المحلية، إلى جانب عنصرية السلطات وتخطيطها الممنهج لخنق القرى والمدن العربية ومنع تطوّرها الطبيعي.
في هذه المعمعة، برز أحد أحفاد عمتي شيخة، وهو شاب يمارس مهنة المحاماة، رشّح نفسه لرئاسة المجلس المحلي إلى جانب ثلاثة مرشحين آخرين. المعركة محتدمة على الفيسبوك، فقد تشكل لكل مرشح طاقم إعلامي يتابع النقاشات على الشبكة العنكبوتية والدعايات في الصحف والتلفزيون المحلي، بل أنهم اتخذوا لهم مستشارين إعلاميين وخبراء نفسيين، واكتظت أعمدة الكهرباء والسطوح وواجهات البيوت والسيارات والشرفات بالأعلام والملصقات، واختار كل مرشح لونا وشارة تدل عليه من بعيد، وبدأ الخبراء في الموضوع في تحليل مصادر قوة كل مرشح، وكم سيحصل هذا أو ذاك من هذه الشريحة أو تلك، وأي الأحزاب السياسية تدعم هذا أو ذاك!
ولأول مرة يشعر أهل القرية بارتياح لغياب الاستقطاب التقليدي الذي كان يحدث بين مرشحي العائلتين الأكبر عددا في القرية، فلا يوجد استقطاب، الجميع يتحدثون عن أربعة مرشحين جيدين، ولكن علينا أن نختار الأفضل من بين الأربعة.
في هذه الأجواء تمّت دعوة رجال عائلتنا إلى ‘فنجاة قهوة’ لدى أحد أبناء العائلة، وحضر المرشح لرئاسة المجلس بمعيّة عمّه، وما لبث عمّ المرشح أن وقف وأخبر رجال عائلتنا وخاطبهم بصفتهم (أخواله) وأن ابن أخيه قرر خوض الانتخابات لرئاسة المجلس البلدي وجاء طالبا دعم’الأخوال’، ثم قام بإلقاء زجلية تمجيدًا وتكريمًا لخؤولته ومكانتهم في قلبه و دمه، فهاج الرجال وتأثروا ووقف معظمهم معربين عن بهجتهم بحفيد العمة شيخة وترحّموا على ثراها الطيب، وقام أكبرهم وأعلن أن على كل من يبدأ اسم عائلته بحرف (الكاف) أن يدعم ويصوّت لحفيد العمّة شيخة لأن الأقربين أولى بالدعم والأصوات. وما لبث أهل القرية أن فوجئوا بالتحول الكبير لصالح هذا المرشح في عائلتنا بالذات رغم آماله الضئيلة بالفوز، وعادت عمتي شيخة التي رحلت منذ عقود، لتصبح نجمًا لامعًا في معركتنا الانتخابية، فأينما ذهبت في القرية تحدثوا عن أصوات أكثرية عائلتنا التي سوف تُمنح لهذا المرشح ليس لأنه محام وصاحب خبرة، فمؤهلات الآخرين لا تقل عن مؤهلاته ولكن لأننا (أخواله). حاول نشطاء الأحزاب السياسية وقف زحف الكلمة السحرية (الخال)، لكن على الأرجح أن المحاولات باءت بالفشل، إن لم يكن الشامل فالجزئي، وظهر اسم العمة شيخة على صفحات الفيسبوك، وصارت سيرتها وعملها التطوعي في رفع (بنات الأذنين)، وتخفيف آلام الحامل والنفاس في الأيام الخوالي يصب في صالح حفيدها المرشح.
رحمك الله يا عمتي شيخة، من كان يدري أن لك هذه القوة القادرة على مواجهة أحزاب سياسية ووسائل دعاية عصرية ومستشارين نفسيين وإعلاميين بكلمة سحرية واحدة لاغير(الأخوال)…
عمتي شيخة في معركة الإنتخابات!!
بقلم : سهيل كيوان ... 17.10.2013