أحدث الأخبار
الخميس 21 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
فصول من تهجير النقب: "كنا نمشي على الأرض حفاةً لنودّعها"!!
بقلم : سليمان أبو ارشيد ... 26.05.2019

صفاء أبو ربيعة:النقب وصراع على هوية المكان والحق التاريخي والقانوني عليهالعلاقة بالأرض محور أساسي في تشكيل هويّة البدوي العربي الفلسطيني
نضال البدو من أجل الأرض هو صراع على مكانهم في الجغرافيا والتاريخ

في شهادتها أمام "لجنة الحقيقة"، التي شكلتها جمعية "ذاكرات" على غرار جنوب أفريقيا، عرضت د. صفاء أبو ربيعة خلاصة روايات عشرات النساء البدويات من الجيل الأول والثاني للنكبة، والتي جمعتها في إطار بحثها لنيل شهادة الدكتوراه.
وتقول أبو ربيعة إنّ الصراع على "هوية المكان"، وهو العنوان الذي اختارته لرسالتها، ما زال مستمرًا رغم مرور 71 عامًا على النكبة وتواصل على امتداد تلك السنوات، وإنّ الحركة الصهيونية، صاحبة مقولة "أرض بل شعب لشعب بلا أرض"، تحاول في إطار مخططاتها للسيطرة على أرض الجنوب الادّعاء أن العرب في النقب هم "بدو رحّل، متنقلون" لا يرتبطون بالأرض والمكان، متجاهلة أنّ الأرض هي المحور الأساسي في هوية البدوي العربي الفلسطيني وأن علاقة الإنسان بالمكان هي التي تشكل هويّة الوطن.
البحث، وما يحويه من شهادات عن التهجير الذي وقع في النقب عام 48، يكتسب معنى خاصا ليس فقط لأنّه يوثق منطقة عزيزة من فلسطين جرى تهميش أحداثها، بل لأن عمليات الاقتلاع والتهجير ما زالت متواصلة في إطار محاولات تركيز سكان القرى غير المعترف بها في تجمعات سكنية مكتظة بغية الاستيلاء على أرضهم.
وحول البحث والصراع المفتوح على الأرض والمكان في النقب، كان هذا الحوار مع د. صفاء أبو ربيعة المحاضرة في علم الاجتماع في جامعة بئر السبع.
عرب 48: هو ماضٍ يحاكي الحاضر أو حاضر يحاكي الماضي، ولكن في كل الأحوال ما يحدث في النقب اليوم هو مشهد حي من نكبة 1948، وانت تستحضرين في بحثك أحداث نكبة 1948 في النقب، لتضيفي بعدا تاريخيا على الصراع الدائر على الأرض هناك وتضعيه في قالب هوية المكان؟
أبو ربيعة: أنا أتعامل مع الموضوع كجزء من الصراع على هوية المكان، على تاريخه، على ماهيّته، وعلى شرعيّة الذاكرة التاريخية، في إطار سؤال من يملك هذه الأرض تاريخيا وجغرافيا وقانونيا، وهذا يقود إلى سؤال ثان من يملك ذاكرة المكان أو يملك شرعية ذاكرة المكان التي تعطينا الحق للعيش في هذه الأرض.
وقد بدأتُ البحث في إطار رسالة الماجستير، حيث أجريت عشرات المقابلات مع رجال ونساء على امتداد النقب، وطورته في بحثي لنيل شهادة الدكتوراه، الذي اقتصر على شهادات النساء فقط، وشملت المقابلات الجيل الذي عاصر النكبة وأولاده.
لمست من خلال البحث مدى ارتباط الجيل الأول والثاني للنكبة بالأرض، واعتبارها جزءًا لا يتجزّأ، ليس من الذاكرة فحسب، بل من هويتهم في الحاضر وصمودهم ونضالهم في المستقبل. ولمستُ أنّ التاريخ موجود بشكل فعال في المجتمع البدوي في النقب وينتقل من جيل إلى جيل.
وأنا أرى أن التوثيق له أهمية من ناحية طرح البديل للرواية الصهيونية كفكرة وتطبيق، عن طريق طرح وجهة نظر محلية فلسطينية تثبت صلة البدوي والبدوية بالأرض من خلال الخطاب الأكاديمي.
عرب 48: ماهي الأمور التي تمحورت حولها الشهادات؟
أبو ربيعة: لقد تحدثوا في البداية عن الحياة التي كانوا يعيشونها في أراضيهم قبل تهجيرهم منها، وكيف كانوا يزرعونها ويفلحونها ويعتاشون على خيراتها، وهو ما ينسف الرواية الصهيونية حول التنقل وعدم وجود علاقة ثابتة مع الأرض، حيث أكدت جميع الشهادات أن البدو، إلى جانب رعي المواشي، كانوا يزرعون أرضهم ويفلحونها ويعيشون من محاصيلها وأن الزراعة شكّلت، بالنسبة لهم، مصدر رزق أساسيًا، فجميع النساء اللاتي قابلتهن استهللن حديثهنّ بالقول "كنّا نزرع ونحصد ونشتغل في الأرض"، وتحدّثن عن تلك العلاقة التي ربطتهن بالأرض بصفتها علاقة حميميّة، قبل الانتقال للحديث عن التهجير وما حل بهم عام 1948.
عرب 48: أهو شعور بالحنين للماضي وتعبير عن الخسارة التي سببها التهجير، ودحض بشكل غير واعٍ للرواية الصهيونية؟
أبو ربيعة: الصلة الحميمية بين الأرض ومن يزرعها تنبع من معرفته الخاصة بالأرض وخصائصها، فهو يعرف ماذا يزرع في الصيف وماذا يزرع في الشتاء وأنواع المزروعات التي تعيش في تلك التربة والنباتات المناسبة للمناخ. والمرأة، في هذا السياق، كانت تحتل الصدارة وتتحمل القسط الأكبر من عبء الزراعة والصناعات البيتية المختلفة، التي تبدأ بمنتجات الألبان ولا تنتهي بصناعة البسط والوسائد والفراش.
لقد كانت حياتهم بمجملها أصلية وارتباطهم بالأرض جزءًا لا يتجزّأ من هويتهم، كما أن علاقة النساء بالأرض جزءٌ لا يتجزأ من هويتهن الجندرية، فقد كانت المرأة المحور الذي يدور حوله كل شيء وهذا الدور هو الذي كان يبلور انتمائهن للأرض ويبلور هوية المكان وعلاقة البدوي بالمكان.
إنّه ليس بدويا متنقلا ليس له تاريخ، فوضويا ويجتاح أراضي الدولة ويهدد القانون كخطر ديمغرافي، ونحن، بالأخصّ النساء، ننتظر الإنقاذ الإسرائيلي من الاضطهاد الذكوري البدوي، كما يدعون.
البحث يتناقض مع الرواية الصهيونية التي تدعي أنّ النقب كان فارغا من السكان، ويشرح علاقة البدوي التاريخية بالمكان وكيف بلورت تلك العملية هوية الرجل والمرأة البدوية الفلسطينية في النقب.
عرب 48: هل تحدثوا عن أساليب التهجير، وهل من أنماط خاصة ميزت النقب؟
أبو ربيعة: هي نفس الأساليب التي أتبعت في سائر فلسطين، كانوا يحكون أنه في اللحظة التي "انكسرت" بئر السبع عرفنا أنّ فلسطين قد ضاعت، وأنّ النزوح كان يتم تحت وابل من الرصاص أطلق على الناس لدفعهم لترك بيوتهم وأراضيهم، وبعد أن يفعلوا ذلك يمنعون من العودة إليها.
الرجال قالوا إنّهم اغتصبوا أراضينا، في تشبيه مجازي بالمرأة ودليل على المكانة التي تحتلها في نفوسهم، بعضهم قال إنّنا كنا نمشي حفاة على الأرض لنودعها، وتحدثوا كثيرا عن المحاولات المتكررة للعودة والتي كانت تواجه بقوة السلاح.
الحديث، طبعًا، عن مهجّرين في الوطن، علما بأنّ غالبية الذين جرى تهجيرهم طردوا خارج النقب وهم موجودون في مخيمات قطاع غزة والضفة وفي الأردن ومصر.
المهجرون في الوطن يعيشون على أراضي قبائل أخرى ويشعرون أنّهم ضيوف على تلك القبائل، لا زالوا يحلمون بالعودة إلى أراضيهم وقراهم التي هُجّروا منها. البدوي يعرف بالضبط حدود أرضه والقبائل تعرف حدود أراضيها قولًا وفعلًا. وحتى اليوم، تجد مثلا مساحة من الأرض فارغة في اللقية الموجودة في إطار مجلس محلي، وعندما تسأل يقولون لك إنّها تابعة لقبيلة معينة موجودة في الأردن.
رجال من الجيل الثالث كانوا يحكون لي أنني من اللقية ولكني بالأصل من الشريعة، وأنا أعيش على أراضي قبيلة أخرى، فهناك استمرارية لهويتهم التي هي هوية مؤقتة، "لأنني يمكن أن أكون ثابتا عندما أعيش على أرضي"، هذا الأمر يحفز فيهم النضال من أجل الأرض والعودة إليها.
عرب 48: الفرق بين الجليل والنقب أنه في الجليل جرى الاستيلاء على الأرض مباشرة بعد النكبة وإقامة إسرائيل وخلال فترة الحكم العسكري، في حين أن عملية الاستيلاء في النقب تتواصل هذه الأيام؟
أبو ربيعة: في النقب، أيضًا، جرى الاستيلاء على قسم كبير من الأرض بعد النكبة مباشرة، حيث جرى تجميع بدو النقب في منطقة السياج، واليوم يجري الحديث عن 120 ألف إنسان يعيشون في القرى غير المعترف بها، جزء منهم يعيش على أرضه وجزء يعيش على أراضي قبائل أخرى، بعد أن جرى تهجيرهم من أراضيهم الأصلية.
اليوم، وبعد سبعين عامًا، نحن نتحدث عن جيل ثالث ورابع لا يعرف أين ستتقاذفه الأقدار، خاصة وأنّ السنوات الأخيرة تشهد تصعيدا في هدم البيوت، يشمل هدم قرى كاملة مثل العراقيب وأم الحيران، ما يفقد الناس الشعور بالأمان.
عرب 48: ما يجري اليوم هو تذكير حي أو صورة مصغرة عن الـ48؟
أبو ربيعة: في النقب النكبة تتواصل منذ سبعين عامًا، وعمليات التهجير ومصادرة الأرض متواصلة وتشهد تصعيدًا خطيرًا هذه الأيام، حيث تسعى إسرائيل إلى تنفيذ مخطط تركيز البدو في تجمعات سكنية والاستيلاء على ما تبقى من أرضهم، والغريب أن التهجير يجري بشكل مباشر وفعلي ومعلن، فهم يفاخرون بعدد البيوت التي يهدمونها في النقب ويصرحون على الملأ ودون خجل أننا نريد أن نهدم أم الحيران البدوية ونبني مكانها حيران يهودية. يستطيعون بناء حيران يهودية بجانبها أو بناء قرية عربية- يهودية مشتركة، ولكنهم يصرون على اقتلاع العرب وزرع المستوطنين اليهود مكانهم ومصادرة اسم المكان، أيضًا.
إنهم يريدون قطع علاقتهم بالأرض، لأنّ المؤسسة الإسرائيلية تعرف جيّدًا ماذا تعني علاقة البدوي بالأرض، وتدرك لماذا يعيش هؤلاء في أرضهم منذ سبعين عامًا بدون مياه ولا كهرباء وتحت خطر التهجير وحر الصيف وبرد الشتاء، هي تدرك أنّ الأرض جزء لا يتجزأ من هوية البدوي العربي الفلسطيني، ولن يستطيعوا قطع هذه العلاقة لأن الحق في الأرض يورث من جيل إلى جيل.
وما أردت القيام به من خلال البحث هو دحض الفكرة المسبقة التي حاولت الصهيونية تكريسها خدمة لأطماعها، وهي أن البدو متنقلون وليس لهم علاقة بالأرض، وإثبات أن علاقتهم بالأرض وانتماءهم إليها محور أساسي تقوم عليه هويتهم وحياتهم، ناهيك عن أنّ نضالهم من أجل الأرض هو نضال على مكانهم في الجغرافيا والتاريخ.
*صفاء أبو ربيعة: باحثة في علم الإنسان أنهت اللقب الثاني والثالث في جامعة بئر السبع والبوست- دكتوراه في جامعة هارفارد في الولايات المتحدة.
بحثت رسالة الدكتوراه التي أعدتها في موضوع التاريخ الاجتماعي للبدو في النقب، حيث وثّقت شهادات نساء من جيل 1948 وبناتهن تحت تأثير النكبة وبلورة هويتهن في ظل الاقتلاع من المكان. تعمل محاضرة في جامعتي بئر السبع وتل أبيب.

**المصدر : عرب48
1