في يوم الثلاثاء الأخير، ودّع الشيخ صياح الطوري أهله وأحباءه وودّعوه، ليدخل إلى سجن الرملة، لقضاء عشرة أشهر وراء قضبان الظلم والاستبداد.الشيخ الطوري ابن التاسعة والستين ربيعا- أقول ربيعا لأنه شاب أكثر من الشباب- تحوّل في العقدين الأخيرين إلى رمز للثبات والصمود والتحدي الأسطوري، في وجه إعصار الحركة الصهيونية العاتي المدمّر، في بيته البسيط، في قريته البسيطة العراقيب، الواقعة قريبا من المدخل الشمالي لمدينة بئر السبع في النقب، التي هُدمت أكثر من مئة وخمسة وثلاثين مرة. الشيخ الطوري، يمثل لبّ الصراع المستمر منذ أكثر من قرن، بين الحركة الصهيونية والشعب الفلسطيني، على كل تلة وواد ووهدة ورسم وملمح وصخرة وحجر وبئر وحفنة تراب وموجة وكثيّب رمل، بل على كل عشبة وزهرة وغرسة.
يمثل الشيخ المواجهة مع حركة هدفها الاستيلاء على كل أرض فلسطين بكل حذافيرها، وبكل الوسائل، وعلى مراحل، بحسب الزمان والمكان والظرف المحلي والعربي والدولي، سواء من خلال شراء الأرض، أو استخدام القوة لمن يرفض البيع، أو من خلال ألاعيب وأحابيل وعمليات تزوير ونصب واحتيال، حتى الهدم والترحيل بقوة السلاح والقتل، فهدف الحركة الصهيونية في نهاية المطاف، هو السيطرة الكاملة على كل أرض فلسطين.
بدأت عمليات شراء الأرض الفلسطينية منذ أكثر من قرن، من عائلات الإقطاع كما هو معروف، خصوصاً عائلات لبنانية وسورية، إلا أن المساحات التي نجحت في شرائها حتى قرار التقسيم عام 1947 وصلت إلى حوالي خمسة في المئة من مساحة فلسطين فقط، ولكن قرار التقسيم منحها حوالي خمسة وخمسين في المئة من مساحة فلسطين، وبعد النكبة عام 1948 سيطرت على أكثر من خمسة وسبعين في المئة من مساحة فلسطين، وفي عام 1967 استكملت احتلالها لفلسطين التاريخية كلها. منذ قيامها، شرعت دولة الاحتلال في سن قوانين مصادرة أراضي الفلسطينيين، وعلى رأسها مصادرة أملاك اللاجئين وقراهم وأراضيهم، ثم أراضي العرب الذين بقوا داخل وطنهم وتحت سيطرتها.
يمثل الشيخ الطوري الذي يحمل الجنسية الإسرائيلية جوهر الصراع مع هذه السلطة الغاشمة بأدق تفاصيلها. في قريته مقبرة تحوي رفات وأضرحة أجداده التي يعود تاريخها إلى ما قبل قيام دولة إسرائيل، وهناك كروم من أشجار الزيتون عمرها عشرات السنين من زرع يديه وأيدي من سبقوه، أما حقول القمح والشعير وقطعان الأغنام، فقد تعرضت في كثير من المرات إلى الرش بالمبيدات من الطائرات، بهدف قطع أسباب معيشة الشيخ وعائلته، وحَمْلِه على القبول بأي حل يطرح عليه، مقابل التخلي عن أرضه. حاولت الحركة الصهيونية التظاهر دائما بأنها لا تغتصب الأرض بل تشتريها، وهو ما تعرضه على أصحاب الأرض في البداية، ولكن عندما يرفض صاحب الأرض البيع، تبدأ المضايقات التي تصل إلى حد هدم البيت وتسميم المحاصيل والمواشي. قد تقترح السلطة تبديل أرض مقابل أرض، ولكن بعيدا جدا عن العدل، فمتر الأرض الذي تملكه الدولة، يساوي عشرة أضعاف متر الأرض الذي يملكه العربي. وعندما يرفض صاحب الأرض البيع أو التبديل، حينئذ تلجأ السلطة إلى أقذر المضايقات حتى تصل مرحلة استخدام القوة، وهو أمر يراه العالم مباشرة، في أراضي الضفة الغربية بصورة شبه يومية.
الشيخ صياح، رفض كل إغراءات البيع والمبادلة منذ عقود، فتعرض وما زال يتعرض للمضايقات بكل ألوانها المذكورة وأكثر منها، من تسميم للمحاصيل والمواشي، ووقف في قاعات المحاكم عشرات المرات، حتى وصل إلى السجن الفعلي بالتهمة المثيرة للسخرية «الاستيلاء على أراضي الدولة».
مثل الشيخ صياح الطوري أبي عزيز، توجد عشرات آلاف الأسر في النقب، تعيش حالة من صراع البقاء أمام دولة قويّة تكرّس كل طاقاتها وأحابيلها كي تتغلب على أناس بسطاء عُزّل. هذا هو حال كل أرض فلسطين، من الخان الأحمر في الضفة الغربية إلى القدس إلى الجليل إلى الساحل إلى بحر غزة المحاصر، وحيثما بقي فلسطينيون في وطنهم، مع بعض الفروقات الطفيفة في طريقة التنفيذ.
حسنا وماذا بعد؟ استولت الحركة الصهيونية على كل أرض فلسطين، فما العمل مع البشر من الفلسطينيين؟ هل تعتقد الحركة الصهيونية بأنها قادرة على التخلص من ستة ملايين فلسطيني وأكثر يعيشون بين النهر والبحر؟ هل تعتقد أنه يمكن لها أن تحكمهم بمنطق السجن الكبير، وحمل الملايين منهم على الرحيل؟
أعتقد أن الحركة الصهيونية بعد كل هذه الانتصارات منذ تأسيسها تعيش في أزمة، فهي بإنكارها لحق الشعب الفلسطيني في وطنه، تبقي حالة الصراع مؤبّدة، وبعد مصادرة الأرض وإدخال أكثر من نصف مليون مستوطن إلى الضفة الغربية، لم يعد حل الدولتين قابلا للتنفيذ، كذلك فإن استمرار سجن مليونين من سكان قطاع غزة، ووضع مليون ونصف مليون عربي فلسطيني ممن يحملون الجنسية الإسرائيلية، مثل الشيخ الطوري في سجن كبير وحرمانهم من التطور الطبيعي، فهذا يعني تأزيم الصراع وليس السعي إلى حلّه، لهذا لا يوجد أي حل منطقي إلا من خلال دولة واحدة ديمقراطية بين النهر والبحر، يعيش فيها الشعبان باحترام ومساواة تامة تشمل منح اللاجئين حقهم التاريخي في العودة إلى ديارهم أو التعويض بحسب خيارهم هم، ولكن حتى بلوغ تلك المرحلة، فإن الآلام والمعاناة ستبقى مستمرة إلى أجيال وأجيال.
تحية إجلال وإكبار للشيخ صياح الطوري أبي عزيز، الذي قال «أدخل السجن رافعاً رأسي، وسأخرج منه مرفوع الرأس»، ويقصد بهذا بأنه لم ولن يساوم، وسيبقى على العهد، وعلى طريقه فليسِر الصادقون.
صيّاح الطوري.. الشيخ الأسطوري!!
بقلم : سهيل كيوان ... 27.12.2018