تستمر جرائم قتل النساء في المجتمع العربي دونما وجود آفاق عملية لتغيير هذا الواقع الخطير وغير الإنساني، وفي ظل تقاعس الشرطة الإسرائيلية وتقصيرها بالتحقيق في جرائم القتل عندما تكون الضحية من المجتمع العرب.
تستخف الشرطة الإسرائيلية في معالجة شكاوى النساء المهددات ولا تتعامل معها بالجدية اللازمة، إذ يظهر من حيثيات جرائم قتل 18 امرأة في البلاد منذ بداية العام الجاري، أنه في معظم الحالات تلقت الشرطة شكاوى من الضحايا بوجود خطر على حياتهن، ولم تقم الشرطة بتوفير الحماية لهن، الأمر الذي أدى لقتلهن. وكانت آخر الضحايا الفتاة عفاف الجرجاوي (21 عامًا) من بلدة شقيب السلام في النقب، والتي بمقتلها يرتفع عدد ضحايا جرائم قتل النساء في المجتمع العربي في البلاد إلى 9 ضحايا، منذ مطلع العام.
تصدم المجتمعات بما فيها المحافظة عند كل جريمة قتل. أحيانا تثير الجرائم الجدل وأحيانا وهو الأمر الأخطر تؤدي الأعراف الاجتماعية إلى عدم فتح النقاش ويعلق المجتمع في الانتظار لمعرفة المزيد من التفاصيل حول الحالة وحول دور الضحية فيها، دون تجريم الجاني واعتبار القتل بكل أشكاله جريمة.
وحين البحث في حيثيات القتل والمجرمين تتضح الكثير من التفاصيل التي تدحض حجة الأعراف المجتمعية أو الاجتماعية للقتل. وبحسب مختصين، هناك العديد من حالات القتل لا علاقة لها بالدافع المُعلن والمسمى بـ"شرف العائلة"، ويكون خلفها دوافع أخرى مثل الحرمان من الميراث أو التعليم، أو بهدف السيطرة على أملاك الضحية وما شابه.
حملت الأعراف الاجتماعية والعرف العشائري في النقب على مدار السنوات العديد من المخارج الآمنة للنساء، وكانت حماية النساء هدفًا معلنًا للقضاء العشائري. ساوت منظومة القضاء العشائري قتل المرأة بقتل 4 رجال، كما حكمت بالقصاص بإعدام الجاني في حالات الاغتصاب، ووضعت نظام أحكام خاص يعنى بمعاقبة الجناة في قضايا "العرض" سمي بـ"المنشد"، كما أسست مفهوم "الدخيلة"، وهو لجوء الفتاة إلى شيخ عشيرة من اختيارها في حال وجود تهديد على حياتها، ويتحتم على الشيخ توفير الحماية والرعاية لها واعتبارها إحدى بناته.
تغيرت مفاهيم القضاء العشائري منذ نهاية الحكم العسكري في النقب، بحكم تدخل السلطة الاستعمارية الإسرائيلية في هذا الشأن، ومحاولة الهيمنة المستمرة على الأحكام العرفية وتحريفها وتغيير أولوياتها. في السابق كان تركيز المؤسسة الإسرائيلية يعتمد على تغيير نظرة القضاء العشائري في قضايا الأرض والتي تمنع بمجملها بيع الأرض للمحتل، ومن ثم اتجهت السياسة إلى تفكيك المجتمع وتحريف الأعراف الجامعة، وتأليب العائلات المختلفة ضد بعضها البعض وتحفيز العداوات، ما يقلّص احتمالات الصمود في الأرض ويلغي فكرة المجتمع التكافلي المستقل.
*قصة "إيمان"
تقوم المؤسسة الإسرائيلية بذلك من خلال "تصدير" شيوخ السلطة بشكل مستمر، إذ تبنى ممارستهم العرفية على تمييع القضاء العشائري وتثبيت المفاهيم الرجعية وغير الإنسانية فيه، ومما يساعدها في ذلك كون الأحكام العرفية لعرب النقب محفوظة بشكل شفوي وغير موثقة في مرجعية متفق عليها شعبيا، وفي النتيجة نرى اختفاء مفاهيم إنسانية مهمة جدًا في العرف العشائري مثل "الدخيلة". على مدار الأشهر الماضية، لم أستطع تجاوز قضية "إيمان" (اسم مستعار)، وهي فتاة عربية من النقب (19 عامًا)، قتلت بدم بارد على خلفية ما يسمى "شرف العائلة" بعد أن استنجدت الفتاة بالشرطة الإسرائيلية عدة مرات، ولم توليها الشرطة أي اهتمام. ويمثل مقتل "إيمان" وقصة معاناتها زاوية مظلمة من المجتمع المحافظ لا يمكن فهمها بالشكل الصحيح دون التعرف عليها عن قرب.
*وفاة الأب
عاشت "إيمان" حياة طبيعية في إطار البيت والمجتمع، وأنهت دراستها الابتدائية والإعدادية والثانوية في بلدتها، وعاشت وتعايشت مع واقعها وعرفتها صديقاتها وأمها ومن خالطها بالأخلاق الحميدة والحيوية وقلبها الطيب. لم تعلم "إيمان" أن حياتها سوف تتغير بشكل جذري في حدث واحد. توفي والدها وهي قاصر، وحسب أعراف المجتمع تولى مسؤوليتها أعمامها وأقاربها. لم تعش "إيمان" حياة سعيدة ومطمئنة بعد وفاة والدها، وتم التضييق على دراستها الثانوية وتقلصت أمامها فرص التقدم لتصبح "الفتاة اليتيمة"، الفقيرة العاطلة عن العمل والتي يمنعها مجتمعها المصغر من الاندماج في الكثير من أماكن العمل بحجة بعدها عن البيت أو مخالطة الرجال.
*الزواج
حضر تزويج "إيمان" إلى أذهان أولياء أمرها على أنه الحل الأمثل لها، إذ بهذا الحل سوف يتم التخلص من "إيمان" التي لم تكن مصدر دخل للعائلة ببقائها دون عمل، بالإضافة إلى كسب مبلغ مهرها الذي سوف يدفعه الزوج.
عُرضت فكرة تزويجها وهي قاصر من عريس لا تعرفه، وما عرف لها عنه أنه كان مقعدا ويبحث عن زوجة لكي "تخدمه"، ولكن اهتمام أولياء أمر الفتاة كان بتوفير مبلغ 5 آلاف دينار أردني من العريس (المعاملات الشرعية والعرفية تتم باستخدام عملة الدينار الأردني في النقب)، وهو المهر الذي وافق العريس على دفعه. وافق أولياء الأمر على تزويجها، ولكن عند علمت "إيمان" بالصفقة رفضت الزواج.
تحولت حياة "إيمان" إلى جحيم منذ لحظة رفضها. تعامل مجحف وشتائم وعنف نفسي وجسدي متواصل، بالإضافة إلى الحرمان من المصروف والحبس في البيت. استمر هذا الحال حتى وافقت "إيمان" على الزواج مرغمة.
ظنت "إيمان" أن الزواج هو خلاصها من واقعها البائس، وأن أي واقع آخر هو أكثر إنسانية من الذي تعيشه، لكنها صدمت بعد أن تبيّن لها أنها تعيش في بيت شخص مريض نفسيا، عانت فيه من العنف الجسدي والنفسي والأعمال الشاقة، وهو واقع أصعب من الواقع السابق لدي أقاربها.
*الطلاق حكم بالموت
لم تستسلم "إيمان" فبعد أقل من سنة على زواجها طلبت الطلاق واهتزت عروش "أولياء أمرها" وزوجها، الذين رفضوا الأمر جملة وتفصيلا، ولكن إصرار "إيمان" كان لا رجعة فيه، فكانت المبادرة من أهلها بتطليقها، ولكن بشرط أن تقوم "إيمان" بتحصيل مبلغ المهر الذي دفعه عريسها لأهلها، خلال شهر واحد فقط.
لم يمد أحد يد العون إلى "إيمان". بقيت وحيدة واضطرت للعمل في العديد من الأعمال الشاقة ومنها أعمال الحقول والتنظيف، وبعد أن باعت معظم ممتلكاتها، نقصها ما يقارب الألف دينار أردني (أكثر من خمسة آلاف شيكل). وفي حين تأخرت إيمان في تحصيل المبلغ، قام "أولياء أمرها" بإلغاء إمكانية إلزامهم بدفع المبلغ حسب العرف العشائري، وذلك بقتل "إيمان" وحرق جثتها. كان قتل ابنتهم أسهل عليهم من دفع مبلغ 5 آلاف شيكل.
تعرف أهل بلدة "إيمان" إلى قصتها عن قرب، لكن لم يعلم أحد حقا ما الذي كان يحدث وراء جدران منزلها. كان كثيرون على استعداد لمساعدة "إيمان"، لكنها لم تثق بأحد بعد معاناتها من أقرب الناس إليها.
كل ما ورد في هذه القصة هو أحداث حقيقية. قمت بالتحفظ على الاسم الحقيقي للفتاة بحكم نفس الاعتبارات الاجتماعية السابقة. توقف العرف العشائري عن العمل في حالة "إيمان" ولم تكترث الشرطة الإسرائيلية بأي من نداءات الاستغاثة الكثيرة التي أطلقتها، والنتيجة كانت مشهد تجول أم إيمان في شوارع بلدتها باكية ومنهارة إلى حد الحديث مع نفسها، باحثة عن ابنتها في كل مكان، قبل اكتشاف الشرطة مكان دفن جثتها التي تم تشويهها!!
"إيمان": تأخرت بدفع "مَهرها"... فقُتلت!!
بقلم : رأفت أبو عايش ... 04.10.2018
{المصدر} : عرب 48