يهجم علينا بكل سماسرته… وشيكاته…
ومافياته…
ليجردنا من آخر ورقة توت… تستقر بها
أجسادنا…
آخر قصيدة ندافع بها عن أنفسنا..
هذا زمن (التركيع).. يا سيدتي
يدخل علينا…
مرة بشكل فيلسوف..
ومرة بشكل كاهن
ومرة بشكل جنرال
ومرة بشكل كومسيونجي .
إلى أن يصبح الوطن العربي
مركزاً للصرافة…
وبيتاً للدعارة!!..
تطبيع في الصباح وتطبيع في المساء
وتطبيع في الشارع
وتطبيع في المقهى
حتى صرنا (طبعة ثانية)
صادرة باللغة العبرية..
من كتاب الأغاني!!..
لذلك فكرت في تطبيع علاقاتنا العاطفية…
قبل أن يصل المقاولون…
والمتعهدون…
وتجار الشنطة
ومندوب صندوق النقد الدولي..
وممثل G . A . T . T
وقائد حلف الناتو…
وأميرال الأسطول السادس.
ورئيس مجلس إدارة النظام العالمي الجديد
وعندئذ… يكون كل شيء جاهزاً
للتوقيع على شهادة وفاة التاريخ العربي
بالسكتة القومية!!…
أريد أن أطبع علاقتي…
مع امرأة من لحمي ودمي…
تعبق بشرتها
رائحة النرجس، والريحان، والورد البلدي
والصابون النابلسي…
وتتجمع في صوتها… أسراب الحمام…
وشُتول الياسمين الدمشقي…
أريد أن أشرب قهوة الكابوتشينو… معك…
وأكل مناقيش الزعتر معك…
وأتحدث في السياسة معك
وفي الثقافة معك…
وفي الحب معك…
ولا مع البولونيات… والهنغاريات…
والتشيكيات… والروسيات…
القادمة إلينا من حقائب أمريكية…
ومعهن.. كل عناوين البيوت الفلسطينية!!..
أريد أن ألثم يديك…
قبل أن تفرغ أكواز العسل
وأن أتصالح مع شفتيك.
قبل أن يرحل موسم شقائق النعمان..
وأن أعلمك أوزان الشعر
قبل أن يقتلوا الخليل بن أحمد الفراهيدي!!…
أريد…
أن أنام في جوف راحتيك الصغيرتين…
قبل أن نصبح ـ أنت وأنا ـ
أعضاء في نادي العراة
وأقلية مضطهدة
في وطن يتدحرج ككرة البلياردو
تحت سواحل البحر الميت.
أريد…
أن أسمعك قصيدة حب واحدة..
فهذه فرصتي الثقافية الأخيرة
قبل أن يسجلوا صوتي
ويراقبوا هاتفي..
ويختموا بالشمع الأحمر ذاكرتي…
هذه فرصتي الأخيرة…
حتى أدافع عنك… وعن حريتي
وعن زمن الشعر… والياسمين…
أريد أن أحتفظ بآخر قميص كبرياء ألبسه
قبل أن يرموني كيوسف في غيابة الجب…
ويكتموا خبر موتي… عن أبي…
أريد أن ألتصق بك قليلاً..
حتى أشعر بشيء من الدفء
وشيء من الأمان
وشيء من الكبرياء
وحتى أشعر أن هناك امرأة…
تستطيع أن ترمم هذا الخراب
الذي يتراكم فوق قلبي…
وفوق دفاتري..
ربما كان الحب يا سيدتي
تعويضاً عادلاً.. عن هذا السقوط القومي
الكبير…
وربما كان زورق النجاة الأخير…
في بحر الكراهية العربي…
وطوفان الشعوبية الجديدة…
إن العالم كله يدور من حولي
والصفقات المالية تعقد من ورائي
والمقاولون يملأون فنادق المنطقة…
والبيع والشراء في أوجه
والدولارات تتناثر…
والضمائر تتناثر…
والسماسرة يعدون الوثائق الرسمية…
لبيع التاريخ…
إن المشهد سينمائي حقاً…
فثمة دولة من أقاصي الخليج
لم يسبق لها أن جرحت إصبعها
في أية حرب مع إسرائيل…
تتبرع بكتابة أول رسالة غزل مكشوف إليها…
قبل عيد فالنتاين بوقت طويل…
وثمة دول…
أخذتها نوبة من النوستالجيا
إلى رحاب المسجد الأقصى
فرمت سفراءها بالباراشوت…
ليحطوا سلاماً على حائط المبكى…
باعتبارهم من أهل العروس!!…
حتى لا تضيع عليهم علبة الملبس…
وفرصة التقاط الصور التذكارية!!…
هذا هو مسرح اللامعقول
بل هذا هو المسرح التجريبي
الذي أدخل الجمهور العربي…
في مرحلة الكوما… والصرع…
وانهيار الأعصاب…
الذين زاروا أخيراً…
قبر صلاح الدين الأيوبي في دمشق
قالوا بأنه مصاب بحالة اكتئاب…
وممتنع عن قراءة الصحف… ومشاهدة التلفزيون
وإنه يرفض إجراء أي حوار مع الصحافة العالمية
حول التطبيع… والمطبعين
و(الهرولة)… و(المهرولين)
اسمحي لي يا سيدتي
أن ألمس قفطان البروكار الدمشقي الذي تلبسينه…
حتى أستعيد توازني النفسي… والقومي
فأنا لا أفهم…
لماذا لا يُطَبّع العرب مع العرب… أولاً؟
ولماذا يتقاتل التاريخ مع التاريخ؟
والقبيلة مع القبيلة؟
واللغة مع اللغة؟..
أريد أن أسأل…
لماذا في بلادنا، تتقاتل الأفعال مع الأسماء…
والألف مع الباء…
والحليب مع الأثداء…
وتقف النساء ضد حرية النساء؟
ثم لماذا يفترس الإسلام نفسه؟
وتنفجر العروبة من داخلها…
كسيارة مفخخة؟؟…
متى أتعلم الواقعية؟
أو ما فوق الواقعية؟
وأركض مع الراكضين
للحصول على شريحة لحم من كتف الوطن؟
حيث الذبائح كثيرة
والذابحون أكثر
وأنا أتطلع إلى المنسف الكبير
ولا أتجرأ على مد أصابعي
لأن أمي ـ رحمها الله ـ ولدتني نباتياً
يأكل حشيش الشعر…
وحشيش الحب…
وحشيش الأحلام…
لماذا لم أتعلم من السلاحف فضيلة الزحف؟
ومن أسماك القرش… فضيلة الانقضاض؟
ومن العلق… فضيلة مص الدماء؟
ومن بعض الشعراء… فضيلة الشحاذة؟
ومن المستبدين العرب
فضيلة أكل شعوبهم.
متى سأستقيل من المدرسة الرومانسية؟
التي بقيت فيها خمسين عاماً…
بهلولاً يتسلى بكتابة الشعر!
ولم أحصل على صفقة واحدة…
أو على رشوة واحدة…
أو على فيلا واحدة…
أو على امرأة واحدة…
تتزوجني لوجه الشعر…
أو لوجه الأدب العربي…
أو لوجه الانحطاط العربي؟؟.
متى سوف أتوب عن الحب… وعن الصراخ
وعن الكتابة؟
لا جواب عندي الآن لهذه الأجوبة المستحيلة.
ولكنني سوف أجيبكم بعد موتي!!…
هل تعرفين الآن يا سيدتي؟
لماذا أريد تطبيع علاقاتي العاطفية معك؟
لأنني أريد أن أحب امرأة عربية…
امرأة عربية واحدة
لا تحمل على جسدها آثار التطبيع
هذا زمن التطبيع… يا سيدتي!!
بقلم : نزار قباني ... 22.02.2018