تساءلت صحيفة “نيويورك تايمز” إن كان الرئيس التونسي ديكتاتورا أم ديمغاجويا؟ وقالت إن قيس سعيد طالما دعا للالتزام بالدستور، لكنه كرئيس قام بليّ القوانين لتناسب رغبته، ومن هنا فهل سينقذ الديمقراطية التونسية أم سيدمرها؟
وفي التقرير الذي أعدّته فيفيان يي، وهي نفسها التي دعاها لمقابلته في قصر قرطاج بعد أيام من تعليقه عمل البرلمان وتفعيل المادة 80 من الدستور التونسي، قالت فيه: “عاما بعد عام، ظل الرجل المتهم الآن باحتقار الدستور التونسي في قاعة المحاضرات منتصب الظهر ببدلة وربطة عنق، ملاحظاته مرتبة أمامه بعناية، ويحذّر الطلاب في أول يوم من العام الدراسي لكي يتأكد من صمتهم المطبق. وأي طالب تأخر عن موعد المحاضرة لا يسمح له بالدخول، وحاول الحديث مع الطالب الجالس إلى جانبك لتواجه التعنيف، ولو كررت الأمر فعليك المغادرة”.
وقالت فدوى العوني التي سجلت في مساق القانون الدستوري لسعيد في عامها الأول بجامعة قرطاج إنها “فوجئت في البداية” وتساءلت: “مثل كل المساقات في الجامعة، هل سأعجب بهذا؟”. لم يحدث، فقد كان سعيد معروفا في حرم الجامعة بجذب الطلاب بصوته العميق الذي يهدر بنبرة قديمة، لدرجة أنها شعرت عندما سمعته يتحدث باللهجة التونسية بدا وكأنه خارج المكان. وتقول يي إن تعليق عمل البرلمان وعزل رئيس الوزراء في الشهر الماضي وسط تظاهرات احتجاجا على الفقر والفساد وطريقة معالجة فيروس كورونا، تحيّر التونسيين من هذه التناقضات للرئيس.
قيس سعيد أيديولوجي لا يتنازل، وغير مستعد للاستماع للآخرين، وهو شخص يعيش بشكل متواضع ويظهر التعاطف مع الفقراء ويؤكد أن هدفه هو نزع السلطة من النخبة الفاسدة.
كيف أصبح المتبدئ في السياسة، والذي لُقّب بـ”روبو كوب” بسبب طريقته المتطرفة في الحديث، محبوبا لدى الشباب على فيسبوك لدرجة أنهم نسبوا إليه كلاما لم يقله أبدا.
وكيف أصبح الأستاذ الجامعي الذي دعا للالتزام بالدستور وفرض نظاما صارما على نفسه لدرجة أنه لم يضيع عمل يوم واحد، ووسع تفسيره للقانون لكي يسيطر على السلطة؟ وأكثر من هذا، فقد تجادل الشباب حول انتزاع الرئيس للسلطة، وفيما إن تحول لبطل شعبوي أو إلى ديماغوجي خطير، وإن كان سينقذ آخر ديمقراطية ظهرت من رماد الربيع العربي أم سيدمرها؟
ويقول العارفون به، إنه يحمل ملامح المسلكيْن، فهو أيديولوجي لا يتنازل وغير مستعد للاستماع للآخرين، وشخص يعيش بشكل متواضع ويظهر التعاطف مع الفقراء ويؤكد أن هدفه هو نزع السلطة من النخبة الفاسدة.
وتقول مونيكا ماركس، أستاذة سياسة الشرق الأوسط بجامعة نيويورك في أبو ظبي: “ينظر إليه أنصاره على أنه الأمل الوحيد لتحقيق أهداف الثورة التي لم تتحقق أبدا”. و”لكننا نعرف أن الأشخاص النظيفين الذين يريدون بصدق القيام بأعمال جيدة يقومون بقطع الرؤوس أحيانا”. وعلى أي حال، فسعيد الذي مارس تدريس السياسة لمدة طويلة ليس ذلك الشخص الذي يطلب شراء نمر ليضمه إلى حديقته، أو يقدم اللبن المثلج الذي أحضر من سانت توربيز، كما فعلت عائلة الديكتاتور السابق زين العابدين بن علي. فعاداته الشخصية تميل نحو المقاهي الشعبية والجلوس على كراسيها البلاستيكية في أحياء الطبقة المتوسطة حيث عاش وزوجته وأبناءه الثلاثة، ولا يزال يعيش فيها بعد انتخابه في 2019.
ويزعم أن ما يدفعه ليس الطموحات الشخصية، ولكن حس المسؤولية والواجب الديني لمنح السلطة إلى الشباب والفقراء الذين أشعلوا الثورة، وما يقوم به هو ضمان التعليم والعناية الصحية وتطهير تونس من الفساد. وفي مقابلة أثناء الحملة الانتخابية؟، قال سعيد: “ترشحت ضد إرادتي”. و”قال الله: كُتب عليكم القتال وهو كره لكم. المسؤولية هي أمر مكروه، مثل الجندي الذي يقف على الجبهة، فهو لا يريد القتل لكنه درب لكي يقتل”. وقالت الصحيفة إن مكتب سعيد رفض طلبات الصحيفة للمقابلة. وسعيد ملتزم بالدين ويصف عمله كرئيس بأنه “ابتلاء”.
يقول محمد ضياء الحمامي، المحاضر في جامعة سيراكوز: “يقول سعيد إنه يعمل هذا لأن عليه عمله، ولأن الشعب يريده أن يقوم بذلك. الفكرة في الإسلام هي أن كل فرد يتعرض لابتلاء في الحياة وبالنسبة له فهو مبتلى بالرئاسة”. وكل هذا قد يكون غطاء للديماغوجية، ولكن حتى نقاده يعتقدون أن لديه مبادئ متجذرة في الدين وحرص على الفقراء.
ولد سعيد لعائلة من أصول مزيجة، فجذور والدته أرستقراطية ولكنها متواضعة، ودخل المشهد الوطني في 2011 بعد نهاية الثورة وهروب بن علي من البلاد. وعندما نظم المحتجون من المناطق المهمشة اعتصاما للمطالبة بتغيرات واسعة، كان سعيد واحدا من الشخصيات المعروفة الذين حضروا للتضامن، وانتشرت صور الفيديو عن مشاركته على صفحات فيسبوك. وكان سعيد مستشارا في كتابة مسودة الدستور، لكنه لم يكن منخرطا في تفاصيله. إلّا أن استبعاده بدا واضحا من تعليقاته التلفزيونية حول الدستور: “الدستور منح أفضلية للبرلمان وسيشعر الناخبون بالحيرة للاختيار بين الأحزاب السياسية التي لا تحرص إلا على السلطة. وسيشعر التونسيون بأنهم استثمروا في ديمقراطيتهم لو انتخبوا ممثلين يعرفونهم شخصيا”.
وكان بديله أو وصفته هو نظام سياسي من الأسفل للأعلى ومن الأعلى للأسفل، حيث تتدفق السلطة من مئات المجالس المحلية المنتخبة ومن رئيس قوي في القمة. لكن أفكاره هذه مفصولة عن الواقع، مع أنه رفض التخلي عنها. ويقول ناشط عرف قيس سعيد شخصيا، إنه شخص كريم ومتواضع، لكن النقاش معه عبثي. وبالنسبة للكثير من التونسيين، فقد كان حضوره على التلفاز مدعاة للمشاهدة الواسعة “كان يملي الحقيقة المطلقة حول ما يجب أن يكون عليه الدستور” كما تقول آمنة جليلي، نائبة المدير التنفيذي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا بمنظمة أمنستي.
وقام التونسيون الذين أُعجبوا به ومالوا إلى طريقته وغضبوا من قصص الفساد والوضع الاقتصادي، بفتح صفحة على فيسبوك تدعوه لترشيح نفسه. وظل يرفض حتى عام 2019. وباتت قصة ترشيحه معروفة، حيث كان شعار الحملة “الشعب يريد” في ترديد لشعارات 2011، وتطوع الأشخاص بدون طلب منه وكانت ميزانية الحملة محدودة وأصر على تقديم حس من عدم الفساد رغم التقارير المتفرقة في الصحافة الأجنبية حول تلقي حملته دعما من الخارج. وقال: “السيادة تعود إلى الشعب. وكل شيء يبدأ منه”. وقال لاحقا إنه اقتنع بخوض الانتخابات عندما طلب منه رجل فقير الترشح، وكانت مثل لحظة وحي ديني. ولم يكن هذا هو اللقاء الوحيد، فقد انتشرت أشرطة فيديو عنه وهو يعانق المحتجين الفقراء في القصر الرئاسي أو في شوارع العاصمة تونس.
وتقول إيمان نفاطي، الباحثة التونسية في جامعة أوكسفورد: “هذا ما لا يجده الناس في الكثير من الساسة”. أما نقاده فقد قللوا من أمره باعتباره أستاذ قانون في الجامعة، بل قال أحدهم إنه لم ينه شهادة الدكتوراة، وانتقد آخرون أفكاره الاجتماعية. فهو يدعم حكم الإعدام ويعارض المساواة في الميراث بين الرجل والمرأة وانتقد المثلية بشكل مفتوح. وقال إن “من يحاولون نشر المثلية” هم جزء من مؤامرة أجنبية.
وهناك شيء يتفق عليه الجميع هو حزمه، كما قال سفير أوروبي ومستشار غير رسمي إن سعيد لن يتفاوض مع الساسة الفاسدين أو الأحزاب بما فيها حزب النهضة الذي يتسيد البرلمان وكذا معظم النخبة التجارية والسياسية. ويقول الدبلوماسيون إن كل لقاء في القصر الرئاسي هو محاضرة وليس حوارا.
ويقول مستشاروه إنه لا يستمع إلا للقلة ومنهم زوجته. ومنذ 25 تموز/ يوليو منع سعيد عددا من القضاة والساسة ورجال الأعمال من السفر أو وضعهم تحت الإقامة الجبرية بدون أي اتهامات رسمية، مما أثار المخاوف حتى بين أنصاره من أنه يميل نحو الاستبداد. وفي يوم الثلاثاء، أعلن مكتبه أن مدة 30 يوما للإجراءات الاستثنائية ستمدد لأجل غير مسمى.
ومن المتوقع أن يقوم الرئيس بتغيير نظام الانتخابات التونسية وتعديل الدستور لتوسيع سلطاته الرئاسية. ورغم وعده بتعيين رئيس وزراء، إلا أن طارق الكحلاوي، المحلل السياسي التونسي، قال إنه علم من مستشارين للرئيس أن سعيد يتعامل مع رئيس الوزراء كمدير أكثر من كونه رئيسا لحكومة. وبرر قراره تعطيل البرلمان وعزل الحكومة بناء على المادة 80 من الدستور التونسي التي تقضي بمنح الرئيس سلطات تنفيذية مؤقتة في حال تعرض البلاد لخطر محتوم.
لكن خبراء الدستور يرون أنه خرق المادة لأنه لم يتشاور مع البرلمان ولا رئيس الوزراء كما ينص الدستور. ورغم دقته في القانون، يشعر الكثيرون أنه يتصرف “بعاطفة وبناء على الغريزة”، وكما يقول الكحلاوي “يشعر أن الناس اختاروه. خرج الناس للشارع وحان الوقت لكي يتحرك”.
صحافة : نيويورك تايمز: هل قيس سعيد ديماغوجي أم ديكتاتور؟ وهل سيدمر الديمقراطية التونسية أم سينقذها؟
27.08.2021