أحدث الأخبار
الخميس 21 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
1 2 3 41057
صحافة : نيويورك تايمز: كيف يغير فيروس “كورونا” أوروبا بشكل دراماتيكي؟
17.03.2020

علق ستيفن إرلانغر من صحيفة “نيويورك تايمز” على الإجراءات التي اتخذتها الدول الأوروبية لمواجهة فيروس كورونا المستجد والتي شملت إغلاق الحدود بينها، مشيرا إلى أن العدو الذي تقاتله هذه الدول أصبح في داخل الحدود. وقال إنه في مجتمعات تبدو الحياة الاجتماعية من خلال الشوارع والمقاهي ويحيي الأصدقاء بعضهم البعض من خلال القبل على الوجنات فإن مخاوف انتشار الوباء خلقت الخوف والتشرذم.
وقال إن متاحف أوروبا المموهة بالذهب باتت فارغة ويتردد فيها الصدى، فيما فرغت الساحات والملاعب الرياضية وأغلقت المتاحف وترددت الكنائس في عقد المراسيم الدينية أما المطاعم الراقية والبارات المعروفة فهي مغلقة.
ففيروس كورونا لا ينتشر فقط بل يقوم بإصابة المجتمعات بعدوى عدم الأمان والخوف والتشرذم. كما حرم الفيروس الإنسانية من المظهر الخادع عن قدرتها على السيطرة وعرى مناعة مؤسساتها العلمية والتكنولوجية والديمقراطية. ولو كان هذا الوضع يصدق على أي مكان يصل إليه الفيروس إلا أنه يبدو أصعب في أوروبا بتاريخ التنوير حيث تمظهرت الحياة من خلال الذهاب إلى الأماكن العامة والتسليم على الأصدقاء من خلال العناق والقبل.
ولم تعد الحياة كما هي، فقد طلب من الأوروبيين أن يختبئوا في بيوتهم ويقوموا برفع الجدران بين دولهم وفي داخل المدن والأحياء وحول بيوتهم لحماية أنفسهم من جيرانهم حتى مع أحفادهم. ولمواجهة الفيروس الذي لا يعرف الحدود في أوروبا التي لا حدود لها فإنها تقوم ببنائها في كل مكان. ولكن رد كل دولة يختلف عن الدول الأخرى. وفي خطوة خفية أو متباينة فإنها تزيد من حس الفراق وأن المشكلة في البلد ليس من صنعه بل جاءت إليه من دول أخرى. وتقول ناتالي توستشي، المستشارة للاتحاد الأوروبي: “التناقض الظاهري في انتشار فيروس لا يعرف الحدود هو أن الحل بحاجة إلى حدود، ليس فقط بين الدول ولكن داخل الدول نفسها” إلا أن “بناءها بطريقة غير متناسقة لا يساعد”.
وهناك عودة محتومة للدولة من أجل الخبرة، السيطرة والطمأنينة. فمع انتشار الوباء من إيطاليا إلى إسبانيا وفرنسا وألمانيا وأبعد من هذا هناك حس بضرورة تبني الأساليب الديكتاتورية التي تبنتها دول مثل الصين. وبعد مراقبة الوباء وهو ينتشر في الصين بنوع من اللامبالاة، شعرت أوروبا بالرعب مما يحدث في إيطاليا. وبدأت فجأة الكثير من الدول بفرض حظر كامل لحماية نفسها ومواطنيها. واختفت فكرة التضامن الأوروبي، التي يتحرك فيها المواطن الأوروبي بحرية ويعمل بلا قيود عليه. ولو كان للوباء منطق الحرب ويقتضي بالضرورة عملا قويا فالعدو سيكون الرجل الذي يقف إلى جانبك.
ويقول إيفان كراستيف، الذي يدير مركز الإستراتيجيات الليبرالية في صوفيا، بلغاريا: “لم تعد المشكلة بين الدول ولكن بين الأفراد”، وأضاف: “أصبح اليوم أخشى ما تخشاه هم الأفراد” و”كل واحد حولك قد يكون خطرا ويحمل الفيروس، وهذا الشخص قد لا يعرف أنه خطر عليك والشخص الوحيد الذي لا يعتبر خطرا عليك هو من لم تقابله، أي الشخص الذي بقي في البيت”. وفجأة أصبحت قبلة الترحيب خطرا وكذا عناق الفرح والعزاء.
وكتب كراستيف وبشكل مستمر عن أزمة أوروبا مع المهاجرين التي وصفها بأنها تشبه انهيار الأنظمة الشيوعية ولكن لا أحد اليوم يتحدث عن فتح الحدود للمهاجرين “فلا أحد يخاف من المهاجرين ولكن من أي شخص”. ويشمل الخطاب حول الهجرة مجازا عن الجحافل والغزو وحتى الذباب ومزاعم أن المهاجرين يجلبون معهم المرض. ويريدون الهرب من حياتهم البائسة بحثا عن ملجأ آمن في أوروبا التي لم تعد آمنة. ويقول كراستيف إن المهاجرين اليوم سيتساءلون: “هل الوباء أسوأ من الحرب؟” و”لا تستطيع المراوغة من الوباء والفرار منه”.
وقبل عقد كتب العالم السياسي الفرنسي دومينيك مويسي الذي تزوج من إيطالية كتابا بعنوان “جيوسياسية العواطف” حيث شرح فيه الضغوط التي تسببت بها العولمة من خلال الإهانة والأمل والخوف، وقال: “اليوم.. العاطفة السائدة هي الخوف”. وقال مويسي إن “أزمة كوفيد-19 تضيف حالة من اللايقين والخوف وتسرع من عملية القلق حول العالم الذي يتحرك بسرعة”، في إشارة إلى المرض الذي يتحرك بسرعة. وأضاف أنه مع الإرهاب والفزع الاقتصادي وعدم الوضوح الإستراتيجي والتغيرات المناخية والهجرة فـ”الأساسيات غير واضحة والمستقبل غير معروف”. واليوم جاء عدو لا يرى “فيمكنك الإصابة بالفيروس من لمسك يد الباب، وهذا هو أقصى حالات الخوف”. وقال إنه افتقد لمس وتقبيل أحفاده وبدأ يفكر بالموت. وقال إن تعبئة المجتمع “أصبحت أكثر صعوبة وضرورية لأن العدو غير مرئي”.
وعاشت باريس عمليات إرهابية أدت لمقتل 150 في ليلة واحدة عام 2015 ولكن الإرهاب “كان وحشيا وواضحا” و”لكن الضحايا من الفيروس سيكون عددهم أكبر من عدو غير مرئي ولم يمر علينا شيء مثل هذا من قبل”.
وبات من الصعب على الحكومة التي تعلمت حث سكانها على الهدوء في زمن الإرهاب التعلم لإخافتهم من أجل صالحهم العام. ففي أثناء الطاعون بالقرن الرابع عشر والذي أدى لقتل الكثيرين اعتقد الناس أن الرب قد عاقب الذين ماتوا وأبقى على حياة من اختارهم. ولكن في مجتمع علماني “بات من الصعب فهم المعنى الأخلاقي لمن يموت” كما يقول كراستيف، مضيفا أن ما نملكه الآن هو مجرد “نظريات مؤامرة” والحديث عن “فيروس أجنبي”، بل واقترح المتحدث الرسمي الصيني أن الأمريكيين هم المسؤولون عن انتشاره.
وفي عام 2003 كتب الفيلسوف الأوروبي الذي توفي الشهر الماضي عن تسعين عاما مقالا مهما لمعهد نيكسس تحدث فيه عن “فكرة أوروبا” التي تواجه التهديد. وقال ستاينر إن الهوية الثقافية الأوروبية قامت على عدد من الملامح التي ليست موجودة في الولايات المتحدة حيث ثقافة السيارات والضواحي والأماكن الواسعة والمفتوحة التي تشجع على الانفصال. وفي أوروبا هناك ثقافة المقاهي التي يلتقي فيها الناس للقراءة والكتابة والتخطيط. ويقول ستاينر إنها أماكن “للتكليف والمؤامرة والنقاش الثقافي والنميمة، الراحة والشاعر والميتافزيقي الذي يكتب ملاحظاته” ومفتوحة للجميع.
وقامت فكرة التمشي الأوروبية على الساحات والشوارع الصغيرة والتي تحمل أسماء العلماء ورجال الدولة المشاهير في أعمالهم أو مذابحهم. وكتب أن أوروبا “تمشي” و”المسافات على قاعدة إنسانية” وفي زمن الوباء ومع إغلاق المقاهي والساحات الفارغة فقد تم تدمير هذه الملامح أمام السكان والسياح مما أدى للعزلة والوحدة كما يقول كراستيف. وأهم شيء كتبه ستاينر هو حس أوروبا بالموت والانحطاط والذي وصفه “بالوعي القيامي الذي أعتقد أنه يظل مهما للوعي الأوروبي”. ففي عمق الدين المسيحي والفلسفة الأوروبية هناك “نهاية تراجيدية” و”هذا لا يعني أن أوروبا مثل بقية الحضارات حدست أنها ستنتهي تحت ثقل إنجازاتها والثروة التي لا تقارن وتعقيد تاريخها”. ونحن لسنا في نهاية الزمن ولكن المزاج متعكر وتحطم بسبب أفعال الإنسانية المشتركة والتضامن.