نشرت صحيفة “التايمز” تقريرا أعده أليكس دي وال المدير التفنيذي لمؤسسة السلام العالمي بجامعة تافتس حول الحرب المستمرة في السودان، قائلا “التاريخ يعيد نفسه في السودان”، فهناك هناك عشرة ملايين نازح في داخل البلاد ومليونا لاجئ ويحتاج نصف سكان البلاد البالغ عددهم 47 مليون نسمة إلى مساعدات غذائية، بينما يعاني 750 ألف شخص بالفعل من الجوع فيما قد يصبح أسوأ مجاعة تمر على البلاد منذ 40 عاما.
وفي الحرب الأهلية الضارية حرقت قرى وبلدات ومدن وتعرضت النساء للإغتصاب وقتل الشباب بمجرد رؤيتهم أو ضربوا حتى الموت لمجرد الاشتباه في انتمائهم إلى جماعة غير مرغوبة وحتى في العاصمة الخرطوم.
في الحرب الأهلية الضارية حرقت قرى وبلدات ومدن وتعرضت النساء للإغتصاب وقتل الشباب بمجرد رؤيتهم أو ضربوا حتى الموت لمجرد الاشتباه في انتمائهم إلى جماعة غير مرغوبة وحتى في العاصمة الخرطوم
ويخشى بعض الخبراء أن يرتفع عدد القتلى بسبب الجوع والمرض إلى أكثر من مليوني شخص بنهاية العام، وهو رقم أعلى كثيرا من الحروب الحالية الأخرى.
لكن بالمقارنة بما حدث قبل 15 أو 20 عاما عندما وقعت كوارث مماثلة هناك، فالعالم لا يبالي اليوم.
ولكن كيف أدى ماضي السودان، والإهمال الدولي، إلى هذه الحالة الطارئة الفريدة؟
ويجيب الكاتب أن أحد الأسباب هو فشل صناع السلام، فقد كان السودان بلدا غير محظوظ. وتم إنشاء البلد قبل 200 عام بالسيف والنار، ورسمت حدوده حسب العمق الذي وصل إليه تجار الرقيق وقطاع الطرق الأوروبيين بحلول الوقت الذي اجتمع فيه وزراء خارجية أوروبا في برلين لرسم الخطوط على خريطة أفريقيا.
وفي أوائل القرن العشرين، قامت بريطانيا بتطوير الخرطوم كعاصمة لمستعمرتها آنذاك، وبنت مشروع الجزيرة لزراعة القطن، الذي كان في ذلك الوقت أكبر مزرعة مروية في العالم، أما الجنوب النائي ودارفور فقد أهملا.
ومنذ استقلال السودان في عام 1956، تمزقت أوصاله بسبب التفاوت الشديد في الثروة والسلطة، والذي تداخل بشكل قاتل مع التنوع العرقي والديني. وتناوبت على البلاد نخب عسكرية متقلبة وحكومات مدنية مترددة ومرهقة، وشهدت البلاد حروبا وحشية وفترات سلام غير مستقرة. وعلى مدى عقد من الزمان ــ من عام 2002 إلى عام 2011 ــ كان السودان محورا لواحدة من أكثر جهود السلام الدولية استدامة في العصر الحديث، وكان عقدا من سفك الدماء، ولكنه كان أيضا عقدا من الأمل الحقيقي وتطلع لمستقبل أفضل.
يخشى بعض الخبراء أن يرتفع عدد القتلى بسبب الجوع والمرض إلى أكثر من مليوني شخص بنهاية العام، وهو رقم أعلى كثيرا من الحروب الحالية الأخرى
وأشرفت إدارة جورج دبليو بوش على مشروع سلام شامل بالتعاون مع كينيا ودول شمال- شرق أفريقيا، ولوقف الحرب الأهلية التي بدأت في الثمانينات من القرن الماضي. وأرسلت الأمم المتحدة قوة حفظ سلام من 10,000 جندي لمراقبة وقف إطلاق النار. وفي كانون الثاني/يناير 2011، صوت جنوب السودان بنسبة 99% لصالح الإنفصال عن الشمال، وإعلان دولة جنوب السودان.
ورغم الحروب الأهلية التي اندلعت في الجنوب إلا أنه ولد بناء على أجندة دولية وبآمال كبيرة.
وأشار دي وال إلى مشكلة أخرى عصفت بالسودان وهي الحرب في دارفور التي اندلعت عام 2003 وقامت فيها حكومة عمر حسن البشير بإنشاء ميليشيا الجنجويد والتي تم فيها تجنيد العرب الرحل من منطقة الساحل وقاموا بعمليات قتل وتشريد وحرق بيوت في الإقليم.
ورد الشباب في نيويورك وواشنطن ولندن على الحرب بتظاهرات واسعة وحملات دعمها ممثلون مثل جورج كلوني لإنقاذ دار فور. وأقام برنامج الغذاء العالمي اكبر حملة مساعدات وتعاونت الأمم المتحدة مع الإتحاد الإفريقي وشكلتا قوات حفظ سلام من 20,000 جنديا. ولم يكن السودان مركز أكبر عمليات حفظ سلام في العالم، بل وكان في رأس أجندة مجلس الأمن الدولي الذي مرر ما بين 2004- 2006 17 قرارا وكذا في مركز أجندة الولايات المتحدة والدول الأوروبية وكان لدى الصين وروسيا مبعوثين خاص في السودان، وأنشأ الإتحاد الأفريقي لجنة من الرؤساء السابقين لقيادة الجهود في دارفور.
ونجح المال والجهود بمنع السودان من الوقوع في الهاوية ولكن لفترة قصيرة. فلم يتم حل المشكلة في الخرطوم حيث استمر البشير وحلفاؤه من الإسلاميين بالسيطرة بل وحولوا الجيش إلى آلة مصالح لهم.
ولقمع التظاهرات الشعبية حول نظام البشير الجنجويد إلى مجموعة شبه عسكرية مدعومة جيدا ولكن باسم جديد وهي “قوات الدعم السريع”. وفي عام 2019 أدت معدلات التضخم العالية ونقص المواد الغذائية إلى تظاهرات شوارع وكان شعارهم “رغيف خبز” الذي لم يعد متوفرا في المخابز وأن على البشير الرحيل. ورفض الجنود إطلاق النار على المتظاهرين لأن زوجاتهم وأبنائهم كانوا من بين المتظاهرين.
وأعلن قائد الجيش عبد الفتاح البرهان وقائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو المعروف بحميدتي دعمهما للمتظاهرين واطاحا بالبشير.
وظهرت بداية حكومة مدنية مكونة من تكنوقراط برئاسة عبد الله حمدوك أستاذ الاقتصاد، إلا أنه ورث اقتصادا مفلسا وجوعا وجيشا يديره جنرالات لا يرحمون يخططون لتقويضه واستعادة السلطة.
وساهمت دول عربية مثل مصر والإمارات العربية المتحدة والسعودية الجيش وطموحاته. فيما بدا خطاب الحكومات الغربية الداعم للديمقراطية كان فارغا. ولم يفاجأ أحد عندما أطاح البرهان وحميدتي بحمدوك التعيس واستوليا على السلطة لأنفسهما. ولم تتم معاقبة الجنرالين على هذا التصرف الوقح إلا بضربة على الرسغ، ولكن الصراع الحقيقي على السلطة كان بين الجنرالين.
وكما كان متوقعا اختلف الجنرالان في أيار/مايو من العام الماضي، بعد فشلهما في الاتفاق على شروط صفقة دمج الجيشين تحت قيادة البرهان.
ومع اقتراب الموعد النهائي للتوصل إلى اتفاق محتمل، كان لدى القوات المسلحة السودانية أفكار أخرى. فمع زحفها إلى العاصمة بالدبابات، حاولت قوات حميدتي تنفيذ انقلاب. وفشلت محاولة الاستيلاء على السلطة، لكن القتال في العاصمة تطور بسرعة إلى حرب أهلية سرعان ما انتشرت في معظم أنحاء البلاد.
وكان السودان يقف على أكبر مجاعة في تاريخه. وكان الملايين ما زالوا يعيشون في مخيمات الإغاثة التي خلفتها الحروب السابقة، معتمدين على المساعدات. وتم اهمال المزارعين والقرويين منذ عقود لصالح المزارع الكبيرة التي تشبه المروج والتي خلقت عواصف رملية محلية. ووعد الفقراء في المناطق الحضرية بدعم أسري نادرا ما كان يأتي. وعلاوة على ذلك، أدت التغيرات المناخية إلى تفاقم الجفاف في السافانا والفيضانات على طول نهر النيل.
كان البرهان وحميدتي يدركان جيدا أن الحرب ستدفع شعب السودان إلى المجاعة. ومع ذلك، استخدما التجويع كسلاح
كان البرهان وحميدتي يدركان جيدا أن الحرب ستدفع شعب السودان إلى المجاعة. ومع ذلك، استخدما التجويع كسلاح. فقد عمد البرهان إلى تقييد المساعدات إلى المناطق التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع التابعة لحميدتي من أجل تشجيع المعارضة وحتى التمرد بين الجماعات القبلية الجائعة. واتسم مقاتلو الدعم السريع الذين يتنقلون عبر عربات تويوتا بالشراسة والوحشية، وقاموا بنهب الخرطوم وأحيائها السكانية وجردوها من كل شيء يمكن سرقته وتخريب ما تبقى. وكانوا أوفياء لسمعتهم السيئة في الاغتصاب والنهب والقتل. وتتهم قوات الدعم السريع وحلفاؤها من القبائل في غرب السودان بارتكاب مذابح إبادة جماعية بحق قبائل المساليت، ويعيش الناجون من عاصفة المذابح كلاجئين في تشاد.
وفي الشرق الذي كان مرة سلة غذاء السودان وعلى طول النيل الأزرق إلى مركز للنهب والجوع. ولجأت القوات السودانية الى ضرب البنى التحتية وخنق المساعدات للمناطق الخاضعة لقوات الدعم السريع. وأشار محامو الأمم المتحدة إلى برنامج الغذاء العالمي وغيره من الجهات المانحة للمساعدات، بأن على المؤسسة الدولية التي تعترف بالقوات المسلحة السودانية باعتبارها الحكومة الشرعية والبرهان رئيسا لمجلس السيادة السوداني – رئيس الدولة بحكم الأمر الواقع – إدانة أعمال الجيش.
وفي الوقت الذي يقوم فيه الأمين العام للأمم المتحدة أحيانا بمكالمات مع جنرالات السودان وداعميهم العرب، وبخاصة الإمارات العربية المتحدة التي تمد الدعم السريع بالمال والسلاح، لكنهم يعرفون أنه لا توجد هناك عصا يلوح بها ولا حتى جزرة.
أما روسيا فتلعب على الحبلين، ويساعد مرتزقة فاغنر حميدتي من جهة، فيما يقوم ممثلو روسيا بالحديث مع البرهان لتعزيز التأثير الروسي على البحر الأحمر. وعين غويتريش دبلوماسيا جزائريا مؤهلا، وهو رمطان لعمامرة، لكن لا يعمل معه فريق كبير وفرصه قليلة لتمرير قرارات في مجلس الأمن.
ومن المفارقة أن إعلان مغني الراب الأمريكي ماكلمور بأنه ألغى حفلته الشهر المقبل في دبي احتجاجا على الدور الإماراتي “في الإبادة الجماعية المستمرة والأزمة الإنسانية” في السودان، سيكون له أثره الكبير وأكثر من الجهود الدبلوماسية الأمريكية والبريطانية والأمم المتحدة مجموعة، فحكام الإمارات تهمهم سمعتهم.
ويرى دي وال في نهاية مقاله أن هناك حاجة إلى إحياء ذلك النوع من الجهود المشتركة، بدءا من تمويل عمليات المساعدة الواسعة، لأن البديل الذي يتكشف اليوم هو كارثي بالنسبة للسودانيين وسيئ على بقية العالم.
صحافة : السودان بين كارثتين: حرب أبدية تتكرر وسط لامبالاة العالم وتدخل الخارج ووحشية المتحاربين!!
02.09.2024