تونس- كتاج مرصع يتلألأ في الأفق، معتليا قمة شماء محاطة من كل جوانبها بمروج خضراء وغابات الزياتين، تتربع مدينة دُقّة التونسية الضاربة في التاريخ والغنية بالإرث الحضاري.
تقع المدينة الأثرية شمال غربي تونس، وتقف في شموخ وهمّة، تزينها أقواسها الكلسية وأعمدتها المرمرية شاهدة على ثراء معمارها وجمال هندستها.
حين تتجه شيئا فشيئا نحو الموقع الأثري يتراءى لك على بعد أمتار، ما تبقى من مدينة تعاقبت عليها حضارات وشعوب مختلفة، كل ترك بصمته وأهم ما يميز حضارته.
ورغم ذلك فما من شيء يوحي إلى الاهتمام بالمدينة، التّي لا تزال واضحة جلية إلى اليوم. ما عدا الزيارات الفردية القليلة والرحلات الطلابية النادرة بعد توقف الرحلات السياحية، لا يوجد اهتمام بدقّة كمزار سياحي تروج له السلطات.
ودقّة مسجلة منذ أكثر من عقدين، على لائحة التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة “يونسكو”، وهي وجهة سياحية وترفيهية، لكنها بانتظار اهتمام أكبر من قبل السلطات المهتمة بالتاريخ والثقافة والسياحة لتستقبل أعدادا أكبر من السائحين والزوار المحليين والأجانب.
وتنتظر المدينة من التونسيين وخاصة الشباب للترويج لهذا الصرح التاريخي عبر مواقع التواصل الاجتماعي لتكون وجهة التونسيين والأجانب المهتمين بالسياحة الثقافية.
تعاقبت على المدينة حضارات وشعوب مختلفة من البربر والقرطاجيين فالرومان والوندال والبيزنطيين، ولا تزال معالمها قائمة توحي بتلاقح ثقافي وفكري وهندسي.
تتجول وسط دقة القديمة وكأنك في رحلة نحو عصور السالفين، لتكتشف فسيفساء من المعالم مجتمعة في مدينة تحيلك على مسارح ومدن تاريخية أخرى.
لطفي النداري، أستاذ التاريخ والآثار القديمة في الجامعة التّونسية، يقول إن “دقة (كانت تكتب بالحروف اللاتينية ثقة) بربرية الأصل تعود جذورها إلى القرن الرابع قبل الميلاد، كما تذكر المصادر القديمة أنها كانت مدينة فيها مؤسسات مدنية منتخبة”.
ويضيف النداري، أن “دقة كانت في فترة ما تابعة لقرطاج البونية، وبعدها استقلت عنها، وأضحت تتبع ملوك البربر، وفي سنة 46 قبل الميلاد أصبحت تابعة للإمبراطورية الرومانية، التي ركزت مواطنيها في المدينة”.
ومنذ سنة 26 قبل الميلاد، أصبح هناك تلاقح ثقافي وسياسي بين سكان المدينة، وتواصلت هذه الحضارة إلى غاية سنة 205 ميلاديا، وهو يوافق عهد العائلة السيفيرية (أحد أباطرة الرومان)، حيث تم الدمج بين الأهالي الأصليين والرومان، وارتقت المدينة لتصبح بلدية رومانية، ثم أصبحت مستوطنة رومانية، سنة 262، وفق المتحدث. ويوضح أستاذ التاريخ أن “من الحضارات التي تعاقبت على دقة بعد الرومان، الوندال سنة 439 ميلاديا، والإمبراطورية البيزنطية سنة 533 ميلاديا”.
تتوسط الموقع الساحة العمومية وتسمى “الفوروم”، وتم إنشاؤها سنة 36 ميلاديا، وهي ساحة اجتماعات عامّة وتجارة وملتقيات، وفق المؤرخ التونسي.
ويذكر أن الموقع يضم أيضا “معبد الكابيتول”، وشيد سنة 166 ميلاديا، وهو مخصص لعبادة آلهة “الكابيتول”، وهم “جوبيتير” (ملك الآلهة الرومانية وإله السماء والبرق في الميثولوجيا الرومانية)، و”جينون” و”مينارفا” (آلهة العقل والحكمة).
ويتابع أن المسرح الذي لا يزال إلى حد اليوم صرحا ثقافيا تقام فيه الحفلات والمهرجان السنوي في دقة، تم تشييده بين سنة 166 و169. وتتميز دقة بأبوابها التي لا تزال محافظة على شكلها، وسُميت في تلك العصور بـ”أقواس النصر”، وأشهرها ذاك الذي بني سنة 205 ميلاديا، ويوجد في المدخل الشرقي للمدينة، بحسب النداري.
كما يحتوي الموقع، وفق المؤرخ التونسي، على “الحمامات الرومانية، وهي عبارة عن مركب ثقافي مزدان بحدائق وفيه أماكن مخصصة لممارسة الرياضة والمنتزهات ومكتبات للمطالعة”.
وبالمدينة أيضا سوق بجانب ساحة “الفوروم”، قبالة معبد ألهة التجارة “ماركور”، شيّد في النصف الأول من القرن الأول ميلادي.
ومن المعالم التي تعود إلى الفترة النوميدية (قبل الرومان) ضريح دقة، وبني في القرن الثالث قبل الميلاد، وهو معروف بنقيشة موجودة حاليا في المتحف البريطاني، ومكتوبة باللغتين البربرية والبونية، تذكر اسم المهندس الذّي يعتبره البعض أول مهندس في شمال أفريقيا، واسمه أتبان.
كما يتضمن الموقع الأثري معبد الإله بعل حمون، الموجود خارج المدينة، وتحديدا في جزئها الشمالي، إضافة إلى احتوائه على المقابر البربرية “الجلمودية”، وفق النداري.
وختم بالتشديد على أنه “لا بد من سياسة تراثية استراتيجية لقطاع التراث، وأن يتم النّهوض بالسياحة الثقافية، وهو ما يستوجب العودة إلى أهل الاختصاص، واستشارتهم في هذا الخصوص”.
دُقّة مدينة قابعة على منصة تاريخ تونس تنتظر الاهتمام !!
20.03.2020