**أم درمان سوق تجمع زائريها بالتراث السوداني لاحتوائها على منتجات يدوية من الجلد الطبيعي والخشب والخزف.
رغم مرور قرنين من الزمن، فإن سوق أم درمان أكبر أسواق الخرطوم وأعرقها لا تزال تقاوم الاندثار، وتتمرد على الحداثة وغلاء الأسعار وإغراق المحلات بالمنتوجات المستوردة، محتفظة بين جوانبها بتراث سوداني يكشف عن امتزاج عرقي وديني، يستقطب السياح.
الخرطوم – تشكل سوق أم درمان، غربي الخرطوم، معلما بارزا من تاريخ التراث السوداني، لاحتوائها على منتجات يدوية من الجلد الطبيعي، والخشب، والخزف، ما جعلها وجهة بارزة للمواطنين، والسياح الأجانب.
وتبدأ جغرافية أقدم الأسواق في السودان وأعرقها، من مبنى “البوستة” أو البريد العتيق جنوبا، وتنتهي بحي “المسالمة” العريق شمالا، إضافة إلى شارعي “كرري” شرقا، و”الشنقيطي” غربا.
ويعود تاريخ السوق إلى نحو قرنين، وهي نموذج مصغر لمدينة أم درمان التاريخية، التي تعتبر العاصمة القومية للسودان، التي تعيش فيها الأعراق والديانات المختلفة، الإسلامية واليهودية والمسيحية والبوذية.
كانت في هذه السوق الكبيرة محلات التجار الهنود، التي تجاور محلات الأقباط، الذين جاؤوا من صعيد مصر ويتخصصون في بيع المنسوجات والمفروشات.
وهناك سوق اليهود، التي ما زالت تحمل الاسم نفسه رغم مغادرة أصحابها للبلاد في السبعينات.
كما تنتشر في السوق محلات اليمنيين أو “اليمانية”، الذين يشتهرون بتخصصهم في مجال البقالات، ولا يزال موقع محل “العدني” شهيرا ودليلا للسياح الأجانب رغم اندثاره.
وتلفت سوق الحرفيين القديمة التي يتوارث أصحابها مهارات التصنيع الانتباه بمجرد الانعطاف إلى الأزقة الضيقة، حيث يبدو الحرفي جالسا على الأرض، هادئا لا يصدر صوتا ولا يأبه بحركة المارة، ولا يُسمع فيها سوى الهدير الواهن لماكينات الخياطة قديمة الطراز.
ويجلس الحرفيون مستغرقين في صناعة الأحذية والأحزمة والحقائب الجلدية المصنوعة من جلود التماسيح والثعابين الكبيرة وجلود الأغنام، وترى آخرين يعملون بنشاط حثيث في صناعة المنحوتات الخشبية والأواني الفضية.
ومع ذلك أصبحت هذه السوق مهددة بالانقراض بسبب تغير الأذواق التي باتت تفضل الأحذية الإيطالية والسورية، وكذلك بسبب القوانين المتشددة في صيد التماسيح والثعابين التي يتهددها الانقراض، كما أن الأواني الفضية والخزفية صارت تُستجلب من الصين.
ولكن الحرفيين يقاومون تغيرات الزمن بإصرار، وذلك بتصنيع الأحذية من جلود الأبقار ثم يرسمون عليها نقاطا سوداء ليصبح مظهرها مشابها لجلد النمر، فهذه «المراكيب» أو الأحذية التي تعرف بجلد النمر ما زال يقبل على ارتدائها كبار التجار.
وقامت العديد من المنظمات في محاولة لحفظ هذا التراث المهني العريق بتدريب مواهب جديدة تسير على نهج الأقدمين، فهذا المجال يشكل جزءا مهما من التراث الفني السوداني، الذي تشكل منتجاته رافدا للمحلات الكبيرة وفنادق الخمس نجوم بالعاصمة السودانية وسوقا رائجة هدفها الأول جذب السياح.
أما الباعة المتجولون فيرصفون بضاعتهم المختلفة من ملابس وأدوات مطبخ وأحذية، التي تغلب عليها علامة «صنع في الصين» وبأسعار زهيدة، حيث يعرضونها على الأرض ويتغنون بصوت عال يصاحبه التصفيق.
ويكوّن الباعة بذلك فرقا غنائية لها فنان وكورس في تنسيق تام وأحيانا يصاحبها الطبل مما يجعل المارة يتجهون لا شعوريا نحو هذا الطرب، وحين يبلغ منهم الجهد بعد ساعات طويلة من الوقوف يجلسون ويفتحون جهاز تسجيل بالقرب منهم، ليحل محلهم في دعوة المارة.
كما تنتشر بالسوق، بائعات الشاي والقهوة، اللائي يضعن المواقد حذوهن ناشرين أمامهن مقاعد قصيرة، بينما لا يزال “القهوجي” يحتل حيزه من المشهد، فهو متمسك بتقاليده في حمل الأواني الدائرية وعليها الفناجين البيضاء، وتراه يمشي الهوينا ذهابا وإيابا متنقلا بين الدكاكين الصغيرة والمارة، لتوزيع القهوة، واستلام الأموال عند نهاية عمله.
ما زالت سوق أم درمان مع انتشار المحلات العصرية والمباني الشاهقة، والمولات في جميع أنحاء العاصمة الخرطوم، محتفظة بنكتها التراثية، وبماضيها القديم في صناعة المنتجات المحلية، وشكل عرض السلع والمحلات القديمة، والباعة يقومون بعملهم في خدمة الزبائن بالجلابيب السودانية التقليدية.
وظلت السوق القديمة، تقاوم الحداثة باستمرار، لكنها متجددة بذوق وفن ومهارة الحرفيين بداخلها، وعندما يقصدها الزبون صباحا أو مساء، يجد كل ما يحتاجه،
وتفوح من أزقتها الضيقة رائحة عبق الماضي قبل أبخرة العطارين الفوَّاحة، بينما ترفرف روح العصر قبل أجنحة طيور الزينة.
وعلى الرغم من أن السوق كلما زادت عمرها ازدادت حيويتها ورونقها وبهاؤها، فإنها تأثرت سلبا وإيجابا بثورة ديسمبر من العام الماضي، التي أنهت حكما للرئيس المعزول عمر البشير وقد امتد لـ30 سنة، خاصة من الناحية الاقتصادية، وارتفاع معدلات التضخم، وغلاء الأسعار، وحركة السياح الأجانب.
وقال التاجر الفاتح إبراهيم السيد، إن “سوق أم درمان، شهدت ركودا شديدا بعد ثورة ديسمبر من العام الماضي، لتصاعد معدلات التضخم، وعدم استقرار الأسعار”.
وأشار السيد إلى أنه لم يعد مطمئنا من ناحية البيع والشراء. وأضاف “الحكومة الانتقالية الجديدة وعدتنا بالتغيير، ونطمح في تحقيق الأمن الاقتصادي والغذائي، وعودة الرخاء إلى الحياة العامة”.
وتصاعد معدل التضخم السنوي في السودان إلى 60.67 بالمئة خلال نوفمبر الماضي، مقابل 57.70 بالمئة في أكتوبر الأول 2019، بالإضافة إلى ارتفاع معدل التضخم في المناطق الريفية، إلى 63.40 بالمئة في نوفمبر مقابل 58.73 بالمئة في أكتوبر.
وتستهدف الموازنة السودانية، للعام الجاري، إبقاء معدل التضخم في حدود 27 بالمئة، مع معدل نمو 5.1 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، مقارنة بـ4 بالمئة في 2018.
ويعاني السودان من أزمات متجددة في الخبز والطحين والوقود وغاز الطهي، نتيجة ارتفاع سعر الدولار مقابل الجنيه في الأسواق الموازية (غير الرسمية)، إلى أرقام قياسية مقابل الدولار الواحد.
إلا أن التاجر محمد الطيب، يرى أن الحركة في سوق أم درمان أحسن حالا من الفترة الماضية، لانتعاشها بصورة كبيرة بسبب زيادة حركة السياح الأجانب.
وشدد الطيب على ضرورة تطوير السياحة والآثار في البلاد، وتنظيم المعالم السياحية باعتبارها تعكس وجه السودان في تقدمه وتطوره، خاصة وأن السياحة ثروة قومية.
وبلغت عائدات السياحة في السودان 1.5 مليار دولار خلال العام الماضي 2016، ومن المتوقع أن تصل إلى 5 مليارات دولار عقب انتهاء الخطة الخمسية في 2020، وهو رقم يعادل أكثر من ثلث إيرادات الموازنة العامة، البالغة نحو 14 مليار دولار، للعام الحالي.
وتتوقع وزارة السياحة أن يتضاعف الرقم إلى مليوني سائح خلال العام الحالي، بعد توقيعها لاتفاق مع بكين، في نوفمبر الماضي، يسهل دخول مليون سائح صيني سنويا.
وفقدت البلاد 80 بالمئة من مصادر العملات الصعبة، عندما انفصل جنوب السودان، مستحوذا على ثلاثة أرباع حقول النفط، كانت تدر أكثر من 50 بالمئة من الإيرادات العامة.
وأكد التاجر محمد نادر مبارك أن سوق الجلود، كانت تشكو التهميش والإهمال في الفترة الماضية، لكن أصبح التجار القادمون من الولايات يأتون إلى سوق أم درمان لشراء الجلود لصناعة “المراكيب” (أحذية محلية الصنع)، لأنها تبقى لفترة أطول، أكثر من الأحذية المصنوعة من البلاستيك.
وأضاف مبارك “بعد ثورة ديسمبر ازدادت حركة طلاب الجامعات الذين يأتون إلى السوق لشراء الجلود بغرض صناعة الحقائب الجلدية والإكسسوارات، لإقامة مشاريع صغيرة من أجل الكسب المادي”.
ويشهد السودان تطورات متسارعة ومتشابكة، ضمن أزمة الحكم، منذ أن عزلت قيادة الجيش عمر البشير من الرئاسة، في 11 أبريل الماضي، تحت وطأة احتجاجات شعبية بدأت أواخر العام الماضي، تنديدا بتردي الأوضاع الاقتصادية.
ولا تزال أكبر أسواق العاصمة السودانية الخرطوم تقاوم الاندثار، فلا تتأثر بالزمن ولا بالثورة ولا باندلاع الحريق الذي تسبب في دمار هائل للمحال التجارية، في ديسمبر الماضي.
أسواق السودان وأعرقها تقاوم الاندثار !!
14.12.2019