كتب ناصر رويس..يتبادر للأذهان أن مقابر الأحياء تعبير مجازي عن الصعوبات الكبيرة التي يلاقيها البعض لإيجاد مأوى تتوفر فيه مقومات العيش الكريم، أو زنزانة مظلمة رمي داخلها أحد المسجونين الذين يرغب سجانوهم في التنكيل بهم وتعذيبهم، لكنه لا أحد يتخيل أن أحياء في مدينة تستور (شمالي غربي الجمهورية التونسية) يبنون بأيديهم قبورهم التي سيدفنون فيها حين يموتون.
ويبني أهالي مدينة تستور الجميلة الواقعة بولاية (محافظة) باجة على بعد 75 كيلومترا من العاصمة تونس قبورهم بأيديهم في مقبرة قديمة بساحة النّارنج أو ساحة "برتقال إشبيليا"، المعروفة بالمدينة، رغم أنهم لا يزالون على قيد الحياة وينعمون بالصحة الجيدة، ولا تهدد حياتهم أية أمراض قد تعجل بوفاتهم.
عادة أندلسية
يتمسك أهالي المدينة بهذه العادة، ويرون أنها واحدة من الممارسات الأندلسية القديمة التي توارثتها الجهة لارتباطها الشديد بالثقافة الأندلسية العريقة، التي انتشرت فيها وأثرت على سلوك سكانها بنقل العديد من العادات والتقاليد لها على مستويات عديدة.
وفي المقابل، يرى السكان أن بناء القبور للأحياء ينبع من إيمانهم بحتمية الموت، وضرورة الاستعداد له، لا بأداء الفرائض الدينية التي أوجبها الدين الإسلامي الحنيف فحسب، بل أيضا بالتدرب على مفارقة الحياة والانتقال من الدنيا إلى الآخرة عبر التعود على الدخول إلى القبور التي تتوارى فيها الجثث عند الوفاة.
ورغم الرهبة التي تنال من الأحياء من عامة الناس عند دخول القبر بسبب جلل الموقف وارتباطه بالصورة المرتسمة لديهم حول أهوال القبر وعذابه، فإن الأمر يبدو طبيعيا وتلقائيا لدى أصحاب القبور الفارغة في مدينة تستور، ويحرص عدد منهم على النزول إلى القبر ومحاولة معايشة حالة الدفن التي سيلقاها عند وفاته.
ويوضح رئيس جمعية صيانة المدينة رشيد السوسي في تصريحات أدلى بها في وقت سابق لوسائل إعلامية أن أهالي تستور هم الوحيدون الذين يختارون أماكن قبورهم ويحددون أماكن دفنهم وهم أحياء، وأن ما يقومون به يعكس استعدادهم لمفارقة الحياة متى حل أجلهم وحانت ساعة فراقهم عن الدنيا.
المنزول يطلق على القبر الفارغ الذي يبنيه صاحبه هو لا يزال على قيد الحياة...
"المنزول"، نسبة لحركة النزول التي تتم حين يوارى الجثمان الثرى، وهو عبارة عن قبر حقيقي مطابق لمواصفات القبور التي يتم فيها دفن الموتى الحقيقيين الذين يحل أجلهم، وتفتح سقفه الذي يكون عادة مشكلا من قطع إسفلتية يتم وضعها بطريقة متراصفة ومحكمة تمنع تسرب التراب والماء.
ويدخل صاحب "المنزول" قبره لفترات زمنية مختلفة، ترتبط بقدرته على التحمل من أجل استحضار الموت ومراجعة نفسه وتصحيح سلوكه في الحياة وتذكر الآخرة والاستعداد لها.
ويضيف السوسي أن عادة تجهيز القبور للأحياء قبل وفاتهم انتشرت قديمًا بين جميع السكان من عرب وأندلسيّين، وممن بقي من سكان المدينة من العائلات التركية، وأن ثقافات الأعراق الذين تواتروا على المدينة امتزجت وأفرزت عادات وتقاليد متعددة، من بينها عادة "المنزول".
ويكشف السوسي عن أن الحكايات المتواترة تشير إلى أن النساء اللاتي تم التنكيل بجثث أزواجهن وأبنائهن عقب سقوط مملكة "غرناطة" خلال عام 1492، وإبقائها أياما عديدة دون دفن؛ متن قهرا بسبب هذا السلوك، مما أسهم في بروز عادة بناء قبور فارغة (المنزول) بين النساء والرجال الذين ظلوا على قيد الحياة في المنطقة.
ويضيف أن بناء قبور فارغة يتماشى مع تعاليم الدين الإسلامي، الذي حث المسلمين على إكرام الميت بدفنه، مما عزز ظهور عادة "المنزول"، وتجهيز القبور مسبقا يشكل حركة استباقية لكل حالة وفاة، وتوفيرا للجهد الذي يتطلبه حفر القبور وتجهيزها في فصل الشتاء، الذي تزداد خلاله المهمة صعوبة، مقارنة ببقية الفصول بسبب برودة الطقس وقسوة الظروف الطبيعية!!
"المنزول".. مقابر فارغة في تونس يقصدها الأحياء لاستحضار الموت!!
06.10.2019