أحدث الأخبار
الجمعة 22 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
1 2 3 41134
قصة حب تونسية لا تعرف يوم الفالنتاين!!
15.02.2018

يوم الفالنتاين مناسبة سنوية تحتفي فيها الشعوب بالحب، مناسبة جيدة لإحياء المشاعر وتدفق الود بين المحبين، وخاصة أولئك الذين شخلتهم ظروف الحياة اليومية فنسوا مشاعرهم، لكن ما الجدوى من يوم الفالنتاين لأناس يعيشون الحب في أدق تفاصليه كل أيام العمر، فابتسامة أو حركة بسيطة تعبير صارخ عن الحب بين عاشقين دون أن يصرّحا بذلك، ذلك ما يعيشه الحاج عمارة والجدة خضراء في ريف تونس البعيد عن العولمة والهدايا في المناسبات، وغيرهما كثيرون في أصقاع الدنيا يحبون دون أن يتبجحوا بمشاعرهم.
جندوبة ( تونس) - في بلدة صغيرة تحمل اسم “الطارف”، بمحافظة جندوبة التونسية، شاءت الأقدار أن تجمع الحاج عمارة الفقيري (95 عاما) والجدّة خضراء (86 عاما)، في رحلة حياة مشتركة تمتد لـ70 عاما، وتنبض حتى اليوم، على إيقاع حبّ لا ينضب.
مسيرة حياة طويلة اتّخذت من الحب والاحترام زادا واجها به تقلّبات الأيام، وتغيّر أحوالها، وأنتجت 13 طفلا كبروا اليوم، وأصبحوا بدورهم آباء وأمّهات أنجبوا في المجموع 67 حفيدا.
الجدة خضراء التي مازالت تتقد نشاطا رغم تقدّم سنوات العمر تتحدث عن طفولتها وصباها ورحلة زواجها من الحاج عمارة، لتتوقّف عند اسمها الذي قالت إنها سمّيت به لأن أهل منطقتها يتبركون باللون الأخضر، ويعتبرونه لون الخير والزرع والشجر والبركة.
وفي بيتها بقريتها الهادئة على الحدود التونسية الجزائرية، بدت الجدّة خضراء خارج تأثير الزمن بضحكتها الرنانة وحركتها الخفيفة، وهي تقول، “تزوّجت زواجا تقليديّا، في سنّ الـ16، أخذ قراره الأهل، لكني تفاءلت خيرا وتحمّلت مسؤولية تأسيس عائلة في سن مبكرة جدّا”.
ومنذ ذلك التاريخ وهي تقضي العمر مع زوج كافحت معه مصاعب الحياة لتربية أطفالها ورعايتهم والعمل في البيت وخارجه.
أمّا زوجها، فيقول، إنه سُمّي عمارة ليُعمّر الدار والأرض… صدفة جعلت كلّا منهما يحمل شيئا من اسم الآخر، فهما يشتغلان بالزراعة التي تعدّ مورد رزقهما الوحيد، ويتخذان من اخضرارها سلاحا يتحدّيان به صعوبة الحياة.
فقديما كانت للأسماء معان فمنها ما يعبّر عن الجمال وخاصة تلك الأسماء المتعلقة بالفتيات، ومنها ما يعبّر به الأهالي عن القوة والرجولة في ما يخص أسماء الأولاد.
زوج استثنائي بجميع المقاييس، فهما يقضيان يومهما سويا، ويتشاركان الأعمال المنزلية والزراعية، يجمعهما المكان والزمان ليؤثثا التاريخ والجغرافيا بحضورهما البسيط في ظاهره والعميق في عِبَرِهِ وفحواه.
ترتسم الخطوط على وجهيهما، ويمحوانها بإصرارهما على السعي والعمل رغم تقدّمهما في السن، وبابتسامة تأبى الخفوت، مصرّان بذلك على أن الروح مازالت حيّة فتيّة، وأن القلب نابض بالحياة والتجارب التي صنعت منهما سندا للأسرة الممتدة بكلّ أطرافها.
يبدأ يوم الحاج عمارة والجدة خضراء منذ الفجر، لينطلقا في عملهما الزراعي ورعايتهما للحيوانات، بالرعي وبالعلف، وذلك بعد تناول فطور الصباح وشرب الشاي الذي يبعث في الحاج عمارة نشاطا كبيرا.
وعلى مدار السنوات الطويلة، كافحا من أجل تعليم أبنائهما، وكانا يقطعان مسافة 8 كيلومترات يوميا، لإيصال أبنائهما إلى أقرب مدرسة ابتدائية، عابرين الوديان والشعاب والتضاريس الصعبة، كما يقول الجدّ عمارة.
يقتات عمارة وخضراء مما تزرعه أيديهما المجعدة، ويُمضيان يومهما بين الحديقة ورعي الماشية وإطعام الدجاج… ينغرسان في التضاريس وينغمسان في عالم البساطة بعيدا عن عالم السرعة والافتراض والعولمة.هناك، في أرضهما، ينتاب المرء شعور بوجود عروق تمتد منهما لتصلهما بالأرض سرّ وجودهما كما يقولان، تماما مثل ذلك الوهج النابض من نظراتهما حين تلتقي ولو صدفة.
ورغم ساعات النهار الطوال والسنوات الـ70 التي جمعتهما تحت سقف دار واحدة، فشل الملل في التسرّب إلى أيامهما، فهما دائما ما يجدان مواضيع مختلفة لتجاذب أطراف الحديث، وتبادل المزاح والنكات قبل انفجارهما ضاحكين وكأنهما شابان لم يدركهما خريف العمر.
يخفيان سنوات التعب وقسوة الظروف المناخية وراء ابتسامة مشحونة بالرضا والقناعة، رغم ما يكابدانه في سبيل الحياة.
بالقناعة وبعض الحكمة تمر حياتهما سلسلة، فهما يحسنان نسيان التعب، ويزداد الحاج عمارة رضا عن شريكة العمر عندما يشاهدها تعد له وجبة ساخنة، تجتمع عليها كل العائلة، وبين هرج الأطفال عندما كانوا صغارا وكأس الشاي يصبح التعب لذيذا لأنه يعطيهما معنى لحياتهما.
وبعاطفة واضحة، تُمسك خضراء يده، فيُسندها، تغنّي له ويهديها باقات الزهور التي أينعت على بساط الحقول الشاسعة أمام منزلهما.
لم يسمعا بوجود عيد مخصص للعشاق، ولم يحدث أبدا أن تدافعا أمام المحلات لابتياع الشوكولاتة أو الهدايا، لكن بداخلهما هناك إحساس فياض بحبّ صادق لم يختبره الكثيرون، مشاعر انبثقت من رحم الحياة في نسخة أصلية لم تعبث بها وسائل العولمة، ولم يشوّهها التصنّع والزيف فالحب عندهما فعل نلمسه في تفاصيل التضحيات اليومية التي يقدّمها الواحد للآخر، ليس لديهما متسع من الوقت ولا جرأة الحديث عن الحب، لعله يفقد طعمه عندهما لو تحدثا عنه والثابت أن لا نظريات ولا نظير في الحب طالما يعيشانه يوميا.
يمضي الوقت سريعا، فيغادران الحقل عائدين إلى بيتهما محمّلين بتفاصيل يوم آخر تضاف إلى ذكرياتهما وقاموس حياتهما، لينطوي يوم آخر في مسيرة زوجين علّمتهما التجربة أن الكفاح والصبر سبيلا النجاح، وأن الحبّ طريق نحو الحياة.
تجربة زواج تمتدّ على مساحة حياتهما بأكملها تقريبا، يلخصها الحاج عمارة بالقول، “عشنا في ظل الاستعمار الفرنسي وعشنا فرحة الاستقلال، وشهدنا أيام الثورة، ولا يزال حبل الود يشدنا حتى اليوم”.
تلك قصة من قصص كثيرة يعيشها الناس بكثير من الحب دون الأحاديث المطولة عنه، ودون البحث في الكتب التي احتوت في أوراقها نظريات طويلة بتفاصيل دقيقة عنه، فالحب فعل يعاش يوميا، وما هو يومي لا يرتقي إلى المناسبات بل أكبر لأنه تفاصيل حياة.

1