البطان حفلات جلد بين الشباب في الأعراس، نشأت في المناطق الريفية وانتشرت في المدن لإظهار الشجاعة والفوز بقلوب الفتيات على نغمات الموسيقى والزغاريد.
الخرطوم - في تقليد توارثته الأجيال في شمال السودان لاستعراض الشجاعة أمام الفتيات والنساء يعرّي الشبان ضيوف حفلات الأعراس في بعض القبائل النصف الأعلى من أجسادهم أثناء الاحتفال بالعرس ليسمحوا للعريس بجلدهم حتى ينزفوا دما في بعض الأحيان.. وإمعانا في إظهار الشجاعة لا ينبس أي منهم ببنت شفة أو تأوّه أو حتى يظهر اكتراثا بما يجري له، فهذه العادة تعد من مظاهر استعراض الرجولة والصبر على المكاره، في المناسبات المختلفة، كالأعراس وختان الذكور.
وعلى الرغم من مُضي سنوات كثيرة على ممارسة السودانيين عادة البُطان، في مناسبات الأفراح، فإن هذه العادة لم تندثر، وظلت تقاوم مظاهر الحداثة في السودان.
غالبا ما يكون البُطان قاسيا ومؤلما، إذ ينزع الشاب ملابسه في الحفل على إيقاع الآلات الموسيقية التقليدية والشعبية، فتلهب السياط ظهره وتُدميه، قبل أن تُعالج جروحه بالملح والزيت الساخن.يقول العريس عبدالحميد حميد رز“الجلد أو البطان عادة من عادات الأعراس عندنا، ويكون الجلد سلفة وديْنا، بمعنى أن العريس الذي يجلد الضيوف من أصدقائه يكون قد جُلد في السابق، أي أنك إذا جلدت شخصا عليك أن تتوقع أن يجلدك هو في حفل قادم من حفلاته”.
تعود بداية ظهور عادة البُطان في السودان إلى فترة (1821 - 1885)، وظلت طريقة مُبهرة لإظهار الشجاعة والقوة، في المناسبات الاجتماعية.
وعلى الرغم من أن حفلات الجلد في الأعراس نشأت في المناطق الريفية، إلا أنها انتقلت إلى المدن وانتشرت فيها، ففي الخرطوم مثلا تقام حفلات البطان على نغمات الموسيقى وقرع الطبول وترديد أغان عن الشجاعة والفخر.
يقول العريس طه عبدالحكم، إن التقليد ليس قاصرا على قبيلة بعينها فقط، مضيفا، “الحقيقة أن السوط من التراث الشعبي في شمال السودان بصفة عامة.. وعندنا كقبيلة الرباطات يعني لنا السوط تراثا أصيلا في قبيلتنا، وله جذور ضاربة في التاريخ”.
وغالبا ما يكون يوم البطان يوم حناء العريس، وهي عادة سودانية يتم فيها وضع الخضاب على يدي وأسفل قدمي العريس، ويكون مصحوبا باحتفال غنائي مشهود تحضره النساء والرجال على الإيقاعات السودانية التي تشعل جذوة الحماس عند شباب القبيلة، فيتسابقون في خلع ملابسهم العليا حتى يكشفوا ظهورهم مستعدين لتلقي جلدات سوط العريس، وكلما كان الشاب في حالة من الثبات التام عند البطان يكون محور إعجاب للبنات، ومصدرا للفخر والاعتزاز لأمه وأخواته.
الأطباء يحذرون من خطورة الأمراض المنقولة عبر الدم الذي يسيل نتيجة الضرب بنفس السياط
وبينما يتعرض الرجال والشبان للجلد في حفل الزفاف تقوم فتيات ونساء القرية بتشجيعهم بالغناء والرقص والزغاريد، وكلما كان عدد الشباب أكبر في ساحة الحفل كانت زغاريد الحسان تعلو أكثر لإثارة الحماس وحثّ الشباب على المزيد من الثبات رغم أن ظهورهم قد ألهبتها السياط وسالت منها الدماء.
يقول المطرب الشعبي كمال إدريس، “إذا قيل لرجل أنه سيجلد دون أن تعزف حوله الموسيقى وترتفع أهازيج الاحتفالات، فإنه قد يغضب، لأن الأغاني والموسيقى تحمسان الناس لينسوا أنفسهم ويخلعوا ملابسهم دون تفكير… ويصبحوا جاهزين للجلد”. يقول المؤرخ اللبناني، نعوم شقير في كتابه “جغرافيا وتاريخ السودان”، إنه “بخلاف إظهار الرجولة والشجاعة أمام الفتيات في الأعراس، فإن البطان كان فيصلا بين المُتخاصمين من الشبان”.
فإذا اختلف شابان لسبب ما، دعا أحدهما الآخر إلى البُطان، فإن رفض اعتُبر جبانا، ورفضت البنات الزواج منه، كما أن المجتمع يحتقره.
أما إذا وافق، فإن الداعي والمدعو يأخذان سوطا، ويتجمع الناس للشهادة عليهما، ثم يشرعان في ضرب بعضهما بالتناوب، إلى أن يسقط أحدهما من شدة الضرب.
ويقول شقير، “إذا أحب شاب فتاة، ونافسه عليها آخر، فإن البُطان يفصل الأمر بينهما، ويفوز بها الغالب”.
وفي وصف التقليد، يضيف شقير، إن من أراد البُطان “يأتي إلى ضاربات الدّلوكة، ويهز سوطه فوقهن قائلا: ابشرن بالخير”. ثم يقف الجميع صفا واحدا، يخرج أولهم فيضرب كلَّ من في الصف، ويرمي السوط قبل أن يعود إلى مكانه في الصف، ليظهر الثاني ويتناول السوط ويفعل مثله، وهكذا إلى أن يأخذ كل واحد منهم نصيبه ضاربا ومضروبا.
محمد المهدي بشرى، رئيس قسم الفلكلور بمعهد الدراسات الأفريقية والآسيوية بجامعة الخرطوم، يرى أن “ممارسة البُطان، في السودان بمثابة استعادة للتراث القديم، والعودة إلى القبلية والهوية الأصلية”.
ويضيف، إن “التراث واحد من مكونات الهوية الوطنية، وحافز للوحدة، لكن عودة عادة الجلد بالسوط، تمثل انتكاسة في الثقافة السودانية، ورجوعا إلى تراث متخلف”.
ويتفق معه حسن عابدين، الطالب بجامعة النيلين، (22 عاما)، فيقول إن “البُطان عادة سيئة، وتركت آثارا بالغة في ظهري، وعمودي الفقري.. ظللت لفترات طويلة أنام على بطني، لأن ظهري أصابته تقرحات بالغة التعقيد”.
لكن الشاب عاطف حسن (32 عاما) له نظرة مخالفة، فهو يرى أن “عادة الجلد بالسوط، كانت وستظل مفخرة لأبناء القبيلة”.
يقول عاطف، “على الرغم من التحذيرات المتكررة، فإنني لن أتوقف عن عادة الجلد بالسوط، فهي عنوان للقوة والرجولة”.
وتكررت في الآونة الأخيرة، التحذيرات من ممارسة البُطان، إذ نبّه الأطباء من خطورة الأمراض المنقولة عبر الدم الذي يسيل نتيجة الضرب بنفس السياط دون استبدالها.
وعدم استبدال السوط، يرفع من احتمالات نقل العدوى عبر الجروح العميقة التي تسببها آثار الجلد في الجسد، خاصة إذا كان أحد الشباب مصابا بأمراض خطيرة تنتقل بالعدوى عن طريق الدم.
وعلى الرغم من ممارسة العادة الضارة بصحة الجسد، فإنها عادت بقوة في مناطق واسعة من السودان، بما فيها العاصمة الخرطوم.
وانتشرت هذه الممارسة بكثافة في الجامعات السودانية، بساحات الكليات المختلفة، للتعبير عن عادات وتقاليد مناطق الطلاب في الأرياف البعيدة، باعتبارها تراثا من الصعوبة بمكان التخلي عنه.
سوط البُطان يلهب شجاعة الشباب في أعراس السودان!!
25.01.2018