يقول المصريون إن “الرزق تحت زحمة الأقدام”، لكن ذلك لا ينطبق على من يكسبون قوتهم في الصحاري والجبال، فصيادو الأفاعي والثعابين يتعرضون إلى المخاطر والأهوال في الأماكن الخالية ليبيعونها إلى شركات الدواء وشركات الجلود الفاخرة، أو يصدّرونها للدول التي تأكل لحوم الثعابين، ويحتفظ هؤلاء الصيادون بقصص وروايات عن مغامراتهم في مهنة المخاطر.
القاهرة- بحياة ذات طبيعة شاقة تصل إلى حدّ المغامرة، يخترق صيادو الأفاعي في مصر حاجز الخطر بحثا عن لقمة عيش يواجهون في طريق الحصول عليها أهوالا قد تقودهم إلى الموت.
ووفق عاملين بمهنة صيد الأفاعي، فإن الغالبية من ممتهنيها ينقسمون إلى نوعين: الأول صائدون محترفون تلقوا تدريبات على مشقة المهنة، والثاني صائدون يتبعون إحدى الطرق الصوفية المسماة بـ”الرفاعية” التي يعتقد أصحابها أنهم محصّنون من لدغ الأفاعي والثعابين.
يؤكد العارفون بأسرار هذه المهنة، أن الثعابين الموجودة في مصر 10 أنواع فقط، وتنتشر الأنواع السامة منها في المناطق الصحراوية والجبلية القاحلة جدا، والمناطق الغابية شديدة الرطوبة ومنها البخاخ والتنير والطريشة والكوبرا والناشئة أسود اللون، وجميع هذه الأنواع تعيش بعيدا عن المناطق السكنية، بينما ثعابين المناطق المأهولة غير خطيرة لأنها غير سامة وهي الكربال والكرباج والسيور.
وهي الأنواع التي تعيش في الحدائق وشقوق المنازل القديمة وعلى جسور الترع والمصارف، أما الثعبان “آكل الحمام” فيتخصص في مصر بمص دماء الحمام والعصافير واليمام فقط. وهناك الثعبان “ذو بوز السحلية” ويعيش في المناطق المهجورة وهو يقوم بالتهويش (التخويف) فقط ولا يضر الإنسان، ويؤكد هؤلاء أن الخوف الزائد من الثعبان هو سبب ابتعاد الناس عنه.
وعن كيفية معرفة الثعبان السام من الثعبان غير السام يقول ممدوح السيد، صائد أفاع، “إن الثعبان السام يتميز برأس مستديرة ومسحوبة وذي لون قاتم يميل إلى السواد أما غير السام، فيميل لونه إلى الإصفرار ولا خوف منه على عكس الثعبان السام الذي يجب التعامل معه بذكاء وحكمة وحذر، خاصة الكوبرا.
وتجد الأفاعي الحية التي تنتمي إلى سلالات نادرة رواجا في البيع عبر الأسواق المتخصصة، وشركات صناعة المصل واللقاح، والجامعات بغرض إجراء الأبحاث الدراسية، وحديقة الحيوان، وفق المصادر ذاتها.
ويتراوح أجر الصائد بين 500 جنيه وألف جنيه (أي بين 27 دولارًا و55 دولارا أميركيا) للثعبان الواحد الذي ينتمي لسلالة غير سامة، بينما يصل أجر صائد الثعبان الذي ينتمي لسلالة سامة إلى 4 آلاف جنيه (حوالي 220 دولارا)، وفق ممدوح السيد. ويستثني القانون المصري صيد الأفاعي من التجريم، غير أنه يحظر صيد أنواع أخرى من فصيلة الزواحف مثل السلاحف والتماسيح.
السر في "الكفكفية"
يقول إسلام محمد رفاعي، وهو متخصص في صيد الأفاعي ينتمي إلى الطريقة الصوفية الرفاعية، إن اتباع هذه الطريقة الصوفية لديهم قَسم يُسمّى الكفكفية إيمانا منهم بقدرته في القضاء على الأفاعي والحيات، معتبرا إياه “كلمة السر للعاملين بمهنة صيد الأفاعي”.
ويوضح الرفاعي الذي يعمل في ضواحي محافظة الجيزة، غربي العاصمة، أن قسم الكفكفية ينص على “قسمت عليك أيها الثعبان أو الحية بهذه الكافات، وما فيها من الكفايات، وأسرارها التامة فلا تؤذني بأنفاسك السامة، وأن تأتي أمامي خاضعا خاشعا وإلا كنت من العاصين لله رب العالمين”.
ويقول مصطفى تاج الهدي من أتباع الطريقة الرفاعية، يمارس هواية أو كما يقولون “حواية” الثعابين واستخراجها من المنازل “في حالة استغاثة أحد الناس بي لوجود ثعبان في منزله أو حديقة من حدائق المانغو على وجه الخصوص أقوم بالذهاب إليه وقراءة الكفكفية وإخراج الثعبان أو الحية بإذن الله”.
مهنة متوارثة
وعن أغرب المواقف التي تعرض لها مصطفى يقول “كنت في أحد المنازل لاستخراج ثعبان كوبرا كان قد ضل طريقه ودخل المنزل، وبعد أن أخرجته ووضعته على كتفي وأثناء ذلك قام بلدغي من أذني، ولكن نجوت منه بعد أن قمت بجرح أذني فلم يجر السم في عروقي”.
يقول عبيد أبوعصران أشهر حاوي في الصعيد الجواني، إن العهد الرفاعي الذي حصل عليه خاص باصطياد “الدبيب” وهي الثعابين والعقارب، وأنه يستطيع أن يحوي الأشخاص من لدغة العقرب أو عضة الثعبان لأن هذا الأمر له عهد وقسم آخر وأنه يستطيع أن يجمع بين العهدين.
وعن سر هذا العهد الذي يعطيه القوة والقدرة على دخول مخبأ الثعبان ليصطاده يقول أبوعصران “لن أستطيع البوح بهذا العهد لأن إفشاء هذا السر يبطل مفعول العهد”. ويوضح أن هذا القسم لا يستطيع أي إنسان حمله.
مؤكدا أن هناك 366 نوعا من الثعابين منها ما هو طيب لا يؤذى ومنها المقاتل الشرس ومنها السام، لكن كل هذه الأنواع في النهاية تخضع بالأمر للقسم والعهد الرفاعي، لكن هناك نوعا من الثعابين لا يخضع للعهد الرفاعي، لذلك لا يمكن التعامل معه ومن رحمة ربنا بعباده أن هذا النوع من الثعابين يتم القضاء عليه من خلال أنواع من الطيور الجارحة.
ويذكر أبوعصران أنواع الثعابين والأفاعي التي يتعامل معها مثل الكوبرا التي يبلغ طولها حوالي المتر ونصف المتر، والأفعى البخاخة التي ترفع رأسها عن الأرض بمسافة 60 سنتيمترا، والثعبان السيار الذي يتميز بلونه الأصفر.
والثعبان الدسار الذي يُعرف لدى العامة “بالدفينة” لأنه يدفن نفسه في الأرض الناعمة، والثعبان الصبور ذو المشية البطيئة، وبالنسبة إلى العقارب فأنواعها كثيرة منها العقرب الناري ويسمى بهذا الاسم لأنه إذا لسع إنسانا فإن لسعته تجعله يتصبّب عرقا كأنه يقف أمام فرن، أما العقارب الصبخية فهي خطيرة لأن لسعتها تقتل الإنسان في الحال.
ويؤكد أنه ورث هذه المهنة عن أبيه وجده، مشيرا إلى أن قدره أن يأخذ العهد ويعمل حاويا لأنه لا يحب الثعابين لدرجة أنه في بعض الأحيان يتركها في “الخن” حتى تموت لأن العهد يحرم عليه قتلها بيده.
ويشير أبوعصران إلى إنه يقوم بممارسة عادة متوارثة بين نساء الصعيد تعرف باسم “الطق” وهي خاصة بالسيدات اللاتي يتأخرن في الإنجاب حيث تقوم المرأة بتخطي الثعبان سبع مرات، ثم يأمر الثعبان بأن يرفع رأسه إلى أعلى، وفي هذه الحالة تصاب السيدة بالرعب الشديد ويغمى عليها، موضحا أن هذه الطقوس “تفيد في علاج الكثير من السيدات بإذن الله”، وأن الثعبان يُستخدم مرة واحدة فقط “فلا يجوز أن تتخطاه سيدة أخرى”.
ورغم اقتناع البعض من صيادي الأفاعي برواية “الكفكفية”، وما يُنسب لها من قدرة على تحصين قائلها من لدغات الأفاعي، لكنها لا تلقى ترحيبا لدى آخرين، معتبرين إياها “خرافة وأكذوبة” لكسب المال من المواطنين.
وحسب شيخ الطريقة الصوفية الرفاعية، طارق الرفاعي، فإن كرامة التحصين من لدغ الأفاعي لم تمنح سوى للشيخ الرفاعي الكبير وحده، وهو الفقيه الصوفي الشافعي الأشعري (512 – 578 هجرية). ويقول الرفاعي، إن جميع الذين يدّعون انتماءهم إلى الطريقة الرفاعية وتحصينهم من لدغ الأفاعي محتالون يستخدمون السحر والدجل للنصب على المواطنين.
„الأفاعي الحية التي تنتمي إلى سلالات نادرة تجد رواجا في البيع عبر الأسواق المتخصصة، وشركات صناعة المصل واللقاح، والجامعات بغرض إجراء الأبحاث الدراسية، وحديقة الحيوان، وفق المصادر ذاتها“
واشتهر البعض من أتباع الطريقة الصوفية الرفاعية حديثا في الموالد الشعبية بمصر باللهو بهذه الآفات كاللعب بالثعابين وركوب الأسود والدخول في النيران دون أن تحرقهم أو تؤثر فيهم، وغيرها، فهذه مما لم تكن معروفة عند الشيخ الرفاعي لكنها استحدثت بعد وفاته.
رزق الجحور
صيد الأفاعي ليس مجرد لهو، وإنما فيه رزق للبعض، يلفت سعيد الحاوي، صائد أفاع، إلى أن شركات المصل واللقاح تتعامل مع البعض من صائدي الأفاعي لاستخلاص سمومها التي تستخدم في صناعة البعض من العقاقير الطبية.
ويضيف الحاوي أنه “فور استلام الطلبية من الشركات يخرج صائدو الأفاعي في مجموعات، قوام الواحدة أربعة أفراد بينهم صبي، ويجهّزون الطعام والشراب وكشافات إنارة وسيوخ حديد مثنية من الأمام، وينطلقون بسياراتهم إلى الصحراء لتبدأ رحلة البحث عن الأفاعي في الجحور”.
ويتابع “يسير صائدو الأفاعي على أقدامهم وسط الصحراء لاقتفاء أثر الحيات؛ حيث يُظهر أثرها على الرمال حجمها ونوعها وعمرها، وبالتالي طبيعة التعامل معها”. ويستكمل الحاوي “نقوم بتوسعة الجحور والخنادق ليدخل إليها أحد الرجال بجسده من الأمام، وعندما يمسك بالأفعى يحرك قدميه سريعا ليقوم أحد زملائه بسحبه إلى الخارج وهو قابض على الثعبان، ليضعه في كيس مصنوع من القماش.
وعن المخاطر التي يواجهها صائدو الأفاعي أثناء رحلة البحث عنها، يقول الحاوي إن “احتمال لدغ الصائد داخل الخندق كبير جدا”، مؤكدا أن الأفاعي صغيرة الحجم غالبا ما تتمكّن من خرق أكياس القماش ولدغ الصائد خلال عملية نقلها.
واختص البعض في صيد الثعابين وتصديرها وفقا لطلبيات تخضع لشروط معينة من دول أجنبية، فيتكفل هؤلاء بصيدها وتربيتها وتغذيتها والسهر عليها، ويتولون إطعامها الطيور الصغيرة وتنظيفها ومتابعتها صحيا.
يقول محمد صاحب مزرعة ثعابين في محافظة قنا في صعيد مصر “لي عقد مع مستورد من هونغ كونغ ينصّ على أن أوفر له نوعية معيّنة من الثعابين، أهم شروطها ألا يقل طول الثعبان عن مترين ووزنه عن 3 كيلوغرامات وأن يكون الثعبان ذكراً وليس أنثى ومن نوع الكوبرا وهو من أكثر أغلى الأنواع ثمنا والذي يصل سعره حتى 1750 دولارا”.
ويشرح محمد الفائدة التي يحصل عليها المستورد من الثعابين “اكتشفت قيمة الثعابين بعد أن زرت هونغ كونغ فوجدت هناك أنه يستفاد بكل جزء من الثعبان ابتداء من السم الذي يدخل في صناعة الأدوية، ومرورا بالجلد الذي يدخل في الصناعات الجلدية الثمينة، وانتهاء بلحم الثعبان الذي يقدم هناك كوجبة شهية جدا في المطاعم والفنادق، فطبق الثعابين من أغلى الأطباق التي تقدم في المطاعم هناك حيث يبلغ ثمن الطبق الواحد 250 دولارا”.
وعن أطرف وأصعب المواقف التي تعرض لها خلال تعامله مع الثعابين، قال إنني أثناء وجودي في هونغ كونغ كان بصحبتي الثعبان “جعفر” الذي يرافقني في معظم تنقلاتي”.
وأضاف، “من المعتقدات الشائعة هناك أن السيدة العاقر إذا مرت على ثعبان يمكن أن تلد، انتهز المستورد الأجنبي فرصة وجود ثعباني معي وطلب مني أن تمر زوجة صديق له وهي عاقر من فوق الثعبان، ولم أمانع، وفي الموعد المحدد تم وضع جعفر على الأرض، وقمت بدعوة السيدة التي كان واضحا عليها الخوف الشديد من الثعبان للمرور من فوقه، وما كادت السيدة ترفع إحدى قدميها لتخطو فوق الثعبان حتى فوجئت به يقف برأسه من على الأرض ففزعت ووقعت على الأرض مغشيا عليها”.
وقال، “لم أستغرب حين انهال زوجها عليّ بالضرب، ولأنني اعتدت ردة الفعل هذه، فقد تركته وانصرفت وعدت بعد ذلك إلى مصر، وبعد مرور أشهر فوجئت بخطاب شكر من زوج السيدة يعتذر فيه عما بدر منه، حيث حملت زوجته بعد تلك الواقعة.
وتنتشر الأفاعي بكثافة خلال الفترة من مارس وحتى أغسطس من كل عام، ثم تعود لتختفي باقي العام، وتخرج في أوقات محدودة بحثا عن الطعام، وفق صائد الأفاعي ممدوح السيد. ويحمل عالم صيد الأفاعي في مصر، قصصا وروايات قليلها طرائفي وأغلبها مأساوي، لكنها لا تزال تغلّف أهدابها نزعة أسطورية لا تخطئها آذان السامعين.
صيد الأفاعي في مصر.. مصدر رزق مغمس بالسم!!
26.07.2017