طبقا للروايات المتداولة بين الناس في جنوب شرق مصر، حدث اكتشاف الذهب بمحض الصدفة عندما أشعل أحد المرشدين السياحيين من أبناء قبيلتي العبابدة والبشارية (أكبر عائلتين في حلايب وشلاتين) النار في كومة من الحطب والحجارة للتدفئة وإعداد الشاي، فإذا به يرى الحجارة التي تسند البراد تنصهر وتتشكل في صورة أخرى، وعندما أخبر مهندس الجيولوجيا المسؤول بالمنطقة اكتشف هذا الأخير أن الحجارة ليست إلا قطعا من الذهب.
القاهرة- على بعد 1300 كيلو متر جنوب القاهرة، بالقرب من الشريط الساحلي للبحر الأحمر يقع مثلث حلايب وشلاتين وأبورماد (محل نزاع حدودي بين مصر والسودان ومساحته 20.580 كم2) وهي بقعة قالت عنها الدراسات إنها أغنى بقاع الأرض بمخزونها من المعادن النفيسة وعلى رأسها الذهب، وبالرغم من ذلك عانى مواطنوها لعقود طويلة من الفقر جراء القحط والتصحر.
ثم جاء التنقيب العشوائي عن الذهب في صحارى البحر الأحمر واكتشافه لوقف استمرار تلك المعاناة لدى البعض من ساكنيه، بعد أن اتخذوا منه مصدرا للرزق ووسيلة للخروج من دائرة الفقر حيث تحول التنقيب إلى “ظاهرة” بعد ثورة يناير 2011 أُطلق عليها “الدهّابة”.
شاع خبر الذهب فتحولت المنطقة إلى قبلة للشباب العاطلين وترك الموظفون والعمال أماكن عملهم للبحث عن المعدن الأصفر، بل وبلغ الأمر إلى حد أنهى معه البعض أعمالهم بدول الخليج وأتوا ليتفرغوا للتنقيب عن الذهب في الأرض القاحلة، حيث باستطاعة أي مواطن الحصول على بعض غرامات من الذهب.
ويصل عدد العاملين في التنقيب العشوائي عن المعدن الأصفر الآن إلى نحو 15 ألف شخص، معظمهم من قبيلتي “البشارية” و”العبابدة” وبعضهم متسللون من السودان، وهكذا تغلغلت ظاهرة البحث عن الذهب في ثقافة وحياة الناس في المثلث، وهو ما نتج عنه انتشار الكشافات الكهربائية اللازمة للإنارة في الطرق الجبلية وأيضا بطاريات الشحن في المحال التجارية لتشغيل أجهزة الكشف عن المعادن.
محسن محمد، وهو أستاذ في الجيولوجيا، أوضح أن “الدهّابة” هم أبناء القبائل الموجودة داخل نطاق أراضي المثلث الذهبي بين وديان وجبال الصحراء الشرقية، والذين يعملون في المناجم القديمة التي سبق أن استخرج الفراعنة الذهب منها.
وأضاف لـ“العرب” أن القدماء تركوا بردية تضم خارطة لمناجم الذهب يطلق عليها “خارطة الفواخير” محفوظة الآن في متحف مدينة تورينو بإيطاليا، حيث يزيد عدد المناجم على 120 منجما، البعض منها قادر على تغيير خارطة إنتاج الذهب في الشرق الأوسط كله، وكان يعمل فيها قديما الرومان وبعدهم الإنكليز ثم أُهملت بعد ذلك لعدم جدواها اقتصاديا.
في السنوات الأخيرة استطاع المنقبون إحياء تلك المهنة بطرق غير شرعية، وبالفعل حصلوا على كميات كبيرة من المعدن عن طريق خطوتين؛ أولاهما تتم في الصحراء بالحصول على الخام نفسه (حجر يتخلله ذهب ويسمى عروق الكوارتز)، ثم تأتي المرحلة الثانية بفصل الذهب عن الخام داخل مطاحن خاصة بعيدا عن الصحراء أعدها الدهّابة لهذا الغرض.
رحلة إلى المجهول
رافق مصور “العرب” رحلة للمنقبين كان عدد أشخاصها سبعة أفراد، أهمهم صاحب جهاز كشف المعادن (رئيس المجموعة)، والذي يمكن أن يكون شخصا أو أكثر حسب شراكتهم في الجهاز، وسائق محترف له خبرة بالدروب الوعرة، وشباب باليومية على دراية تامة بالحفر والتنقيب، ثم عامل لخدمة المجموعة.
استقل الجميع سيارات حديثة “ربع نقل” نظرا لأن سيارات الدفع الرباعي محظور دخولها إلى هذه المناطق الحدودية، وبالتالي يستعيض السائق عنها بتهوية إطارات السيارة الخلفية حتى لا تغوص في الرمال، وقبل الانطلاق دعوا الله ألا يتوهوا في الصحراء وأن يبعد عنهم الملاحقات الأمنية التي ستلقي بهم حتما خلف القضبان إن تم العثور عليهم.
بعد الخروج من مدينة الشلاتين سلك أفراد المجموعة دروبا جبلية مرورا بأشجار السيال المنتشرة على جانبي الطريق متعمدين الابتعاد عن الكمائن الأمنية قدر المستطاع، إلى أن وصلوا إلى هدفهم المنشود على بعد 200 كيلومتر من مدينة أسوان.
ركز المنقبون على أماكن تواجد عروق الكوارتز الغنية بخام الذهب والتي قد تصل نسبته في الطن الواحد إلى 25 غراما، وقالوا لنا إن هناك نوعا آخر من التنقيب في سهول الوديان حيث يترسب الذهب فيها بعد هبوب الرياح أو تدفق السيول أو المطر من قمة الجبل.
يتحمل العاملون بتلك المهنة في الصيف أشعة شمس حارقة تصل إلى 50 درجة مئوية، أما إن كان التنقيب في الشتاء القارس فسوف تتجمد أطرافهم، ومنهم من يتوه أو تبتلعه دروب الصحراء، كما يموت آخرون جراء تعرضهم للدغات العقارب السامة والثعابين.
وأوضح أدهم سامي رئيس المجموعة، وصاحب جهاز لكشف المعادن، لـ”العرب”، أن التنقيب ليس عملية سهلة، كما أنهم “لا يغرفون من الذهب غرفا” كما يظن البعض، بل يعثرون على ما تجود به الصحراء وهي لا تجود دائما بالكثير من الذهب، وفي بعض الأحيان لا يعثرون على شيء فيعودون بخفي حنين.
وشرح سامي أنه في نهاية عام 2010 وصل أحد السودانيين إلى المنطقة وبحوزته جهازان مرتفعا الجودة للتنقيب عن الذهب، اسماهما “جيبا”، و“تكنتكس”، وبدأ في تعريف الأهالي هناك بطريقة التنقيب عن الذهب باستخدامهما، وهذان الجهازان يصل سعرهما الآن إلى 160 ألف جنيه (ما يعادل 8800 دولار).
ويتكون الجهاز من ماكينة للمسح الأرضي يسهل تحريكها بواسطة ذراع طويلة في الوديان أو على الصخور والرمال، وهناك أشخاص في المنطقة يملكون أكثر من جهاز ويقومون بتأجيرها.
في الصباح الباكر ضبط سامي الجهاز وأدخله في الذراع اليمنى مع سماعة تتصل بالجهاز والبطارية، لكن المشكلة أن الجهاز يصدر رنينا كلما اصطدم بأي معدن إذ أن صوت الذهب والنحاس يتشابهان جدا ما يضطره إلى حفر نحو 60 سنتيمترا في باطن الأرض عند سماع الرنين، ثم لا تكون النتيجة جزيئات الذهب.
لكن إذا كان الصخر به ذهب، فإنهم يصنفونه بأسماء متعددة ومعروفة بين المنقبين وتكون وفقا للحجم، فالكبير اسمه “بطاطساية” والصغير “نموسة” أما الحجم المتوسط فيطلقون عليه “جنزبيلة”. وهناك طريقة أخرى للتنقيب يتم فيها حفر ممرات رأسية في الأرض لتتبع اتجاه عرق الذهب، باستخدام “عِدّة الحرق” المكونة من أنبوبة بوتاغاز وخرطوم يتصل به بوق يخرج منه اللهب الذي يوجه للصخور، فإذا لان الصخر فذلك دليل على احتوائه على المعدن النفيس.
ونتيجة لأن الكثيرين يملكون تلك الأجهزة الخفيفة فقد دارت معارك بالأسلحة بين القبائل في مناطق التنقيب، ولذلك تم عقد “جلسة عُرفية” كبيرة ضمت مشايخ قبائل العبابدة والبشارية والمعازة، جرى فيها تحديد الأودية الجبلية التي تخص كل قبيلة ويُسمح لها بالتنقيب فيها.
أما المناطق القريبة من الكمائن والأجهزة الأمنية والغنية بالذهب، فإن المنقبين يخشون الاقتراب منها أو العمل فيها خوفا من فضح أمرهم بسبب الأصوات المرتفعة للمعدات.
القبائل المسيطرة على بعض الأودية تعمل لحسابها وتستخدم المعدات الثقيلة لأخذ عينات من الجبل لقياس نسبة تركز الذهب بها، فإذا وصلت إلى أكثر من 15 غراما في الطن يطرحونها لمزايدات مع آخرين ويحصلون على نسب من الإنتاج دون بذل أي مجهود.
ومؤخرا منع مشايخ قبائل العبابدة والبشارية التنقيب باستخدام المعدات الثقيلة حرصا على سلامة التربة في المنطقة، لأن تلك المعدات تزيل طبقة من سطح الأرض ما يؤدي إلى تقليب الصخور ومن ثم فإنه عند نزول المطر يصعب نبات العشب من جديد، ولهذا فهم يسمحون باستخدام الأجهزة الخفيفة فقط.
وبالقرب من السوق الدولية بمدينة الشلاتين ثمة مجموعة من الأسوار متوسطة الارتفاع من الطوب الأسمنتي تم بناؤها بطريقة بدائية ولها باب حديدي محكم بأقفال ينغلق على العاملين في مواقع “طحن الذهب”.
عملية الطحن هذه تصطف أمامها الطوابير، وتتدخل فيها الوسائط والمعارف للطحن أولا، وتبلغ تكلفة طحن طن الأحجار الممزوجة بالذهب 2500 جنيه (ما يعادل 138 دولارا)، ويمكن طحن 20 طنا خلال 24 ساعة.
الطواحين لها “رحايا” رأسية حديدية تعمل بمولد كهربائي كبير، وتدخل إلى مصر بشكل شرعي بغرض استخدامها في طحن القمح والشعير، لكنها تستخدم هنا في غير محلها، وتكلفتها تتراوح بين 800 ألف ومليون جنيه (ما يعادل 44 ألف دولار إلى 55 ألف دولار)، والمشكلة أن تلك الكسارات والمطاحن قليلة العدد ولها عمر افتراضي لا يتعدى الستة أشهر لأنها تعمل بشكل متواصل.
ويقوم بتشغيلها ومتابعة عملية الطحن مجموعة من الأفراد منهم سودانيون، وبجوارهم الكثير من الأكياس الممتلئة بالصخور المكسرة القادمة من الجبل. وهناك ثلاثة عمال يجلسون أسفل المنطقة التي وضعت عليها الطواحين، ويفرغون الأكياس بداخل الطواحين المليئة بالماء لطحنها وعندما تصل إلى حجم حبات الرمل يتم نقلها كخليط مع الماء عبر إحدى المواسير ذات قطر كبير، وصبها في حوض كبير.
وتتولى مجموعة أخرى وضع رواسب طحن الصخور في قصعة (حوض صغير) من حديد يصب فوقها قليل من الماء وقطرات من الزئبق ثم يتم هز وتدوير الخليط وسكبه في قصعة أخرى للفرز ويتكرر ذلك عدة مرات لتجميع مادة الزئبق مع الذهب وتخليصها من الرديم.
الذهب المستخرج يباع من خلال تعاقدات بين القبائل والتجار الذين يتم الاتصال بهم بعد انتهاء عملية استخلاصه من الصخور، وهناك تجار ينشرون أفرادا تابعين لهم بين المنقبين لمعرفة الكميات التي تم استخراجها للتواصل معهم بغرض الشراء.
قال أبوعامر (منقب) لـ “العرب” إن الرديم يحتوي على الذهب بنسبة كبيرة، ولهذا يقومون بتجميع الرديم وبيعه من جديد ويقبل على شرائه السودانيون ولديهم استعداد للعمل بالمجان في استخلاص الذهب من الزئبق، من أجل الحصول على الرديم. وأكد أن حرق الزئبق لاستخلاص الذهب منه دون استخدام مواصفات معينة تضمن عدم نفاذ الغاز للعامل يؤدي إلى الوفاة الفجائية، وهو ما حدث لعمال كثيرين.
ملاحقات أمنية
على الرغم من عدم وجود قوانين تجرم عمليات البحث والتنقيب عن الذهب إلا أن الملاحقات الأمنية تطارد شباب القبائل وهو ما كشفت عنه العديد من القضايا، حيث تمكنت مباحث البحر الأحمر من ضبط أشخاص دون أوراق ثبوتية أثناء تنقيبهم عن الذهب بمنطقة صحراوية. وتمت مصادرة أجهزة حديثة خاصة بالبحث عن الذهب والكشف عن المعادن مهربة من الجمارك وممنوع دخولها إلى البلاد، إضافة إلى ضبط كميات من الذهب الخام.
وأشار حسن مصطفى عضو نقابة كشافي المعادن إلى أنه جار توفير دورات علمية وفنية بالتعاون مع النقابة العامة بالقاهرة للارتقاء بالمستوى المهني لكشافي المعادن، بجانب القيام بدور النقابة في الغطاء التأميني واعتماد مزاولة المهنة أسوة بباقي النقابات وتدوين مهنة كشاف معادن لأعضاء النقابة ببطاقة الرقم القومي. وأضاف لـ “العرب” أن النقابة تعمل على حصر وترقيم أجهزة الكشف عن المعادن، وإعداد قاعدة بيانات لتلك الأجهزة ومواصفاتها ونوعيتها لكي لا تتم مصادرتها.
مصدر أمني أوضح لـ “العرب” أنه خلال السنوات الماضية تمكنت قوات حرس الحدود بالتعاون مع جهاز الشرطة من ضبط عدد كبير من المنقبين وتمت مصادرة السيارات والذهب الذي كان معهم، مؤكدا أن هناك توجيهات بالتصدي لجميع أنواع التنقيب العشوائي وهناك حملات تشنها الأجهزة الأمنية لمنع هذا النشاط غير الشرعي.
وبسبب ذلك تنتاب حالة من الغضب أبناء القبائل معتبرين ذلك حرمانا من خير بلدهم، وانتقد شيوخ القبائل كثرة الملاحقات الأمنية التي يتعرض لها أبناء وشباب البشارية والعبابدة، وأكدوا أن ما يقوم به الشباب محاولة للتغلب على ظروفهم الاقتصادية الصعبة.
الشيخ أبومشالي قال لـ “العرب” إنه يجب على الأمن تتبع السودانيين المتسللين إلى الحدود المصرية للبحث والتنقيب عن الذهب وليس المصريين. وأكد عوض محمد هدل، أحد أكبر مشايخ قبيلة البشارية والعبابدة، لـ”العرب” أن سبب اللجوء إلى تلك المهنة هو انقطاع الأمطار عن مراعي الأغنام والمواشي ما اضطر الأهالي إلى التأقلم مع الحياة لينفقوا على أولادهم.
ولفت إلى أن حلم الثراء يداعب الكثيرين من أبناء القبائل ومنهم من نجح وكثيرون فشلوا، فلم يكن الأمر سهلا وتعرض بعض الشباب للموت عطشا أثناء البحث عن الذهب بعد أن ضلوا الطريق، والبعض الآخر تعرض لمطاردة السلطات والحبس لمدة عام وغرامة قدرها 30 ألف جنيه (ما يعادل 1600 دولار)، بسبب التنقيب في مناطق عسكرية محظور التواجد فيها.
وأشار إلى أن تصريح البحث عن الذهب كان يصدر في السابق بالتنسيق مع مشايخ قبيلته لأنهم الأكثر خبرة بالمنطقة، بالإضافة إلى أن شبابهم لديهم خبرة بالدروب ومسالك الجبال وآبار المياه، وكان مشايخ القبيلة مسؤولين عن أي تجاوزات قد تحدث، ولكن مع مرور الوقت أصبحت التصاريح تصدر لأي شخص بعد استيفاء الأوراق المطلوبة.
وبدأ تقنين تلك الأوضاع بإنشاء شركة “الشلاتين للتعدين” لتكون صاحبة الامتياز للتنقيب عن الذهب في الصحراء الشرقية، وأعطت الشركة تصاريح للراغبين في العمل بالتنسيق مع مشايخ العبابدة والبشارية، مقابل دفع رسوم رمزية.
*تصوير: محمد حسنين...كتبت.. شيرين الديداموني..المصدر : العرب
حلم "الدهابة" بالذهب في مصر وَهم وغرامات من المعدن النفيس!!
05.05.2017