يعاني سكان الخرطوم من أزمة المواصلات كل يوم وخاصة في ساعات الذروة حيث لا توفر الحكومة العدد الكافي من الحافلات، كما أن أجور التاكسي مكلفة، لذلك اختاروا التنقل بـ”الركشة” وهي عربة صغيرة بثلاث عجلات دخلت إلى السودان من الهند.
الخرطوم - لا شيء يميز شوارع الخرطوم كما تميزها “الركشة” بوصفها وسيلة النقل الأقل كلفة والأكثر انتشارا في العاصمة السودانية التي يقطنها أكثر من 8 ملايين نسمة، وينظر إليها البعض كحل لأزمة النقل بينما يراها آخرون سببا للازدحام والحوادث المرورية.
الركشة أو “الحمار الميكانيكي” مركبة هندية الصنع صغيرة الحجم تتسع بالكاد لثلاثة أشخاص يصطفون خلف سائقها، وتتحرك بثلاث عجلات ومقود ومحرك دراجة نارية معدلين دون أي نوافذ أو أبواب.
وتعود تسمية “الحمار الميكانيكي” إلى زعيم حزب الأمة القومي الصادق المهدي، الذي رأى أن السودانيين استبدلوا عربات “الكارو” التي تجرها الحمير بهذه المركبة الصغيرة الهندية الأصل.
وعرف السودانيون “الركشة” لأول مرة قبل أكثر من عقدين، حيث كان استخدامها يقتصر على نقل البضائع خفيفة الوزن قبل أن يتم الترخيص لها في 1996 لنقل الركاب كحل لأزمة المواصلات التي كانت مستفحلة وقتها، خصوصا في المناطق التي لا تصلها حافلات النقل العامة.
وبعدها بدأت أعداد الركشة في تزايد كبير في كل أحياء الخرطوم خصوصا الشعبية منها ذات الكثافة السكانية العالية، حيث يتم الاعتماد عليها للتنقل بين الأماكن التي لا تمر بها شبكة المواصلات العامة نظرا لانخفاض تسعيرتها مقارنة بسيارات الأجرة الخاصة لأكثر من النصف.
ويعمد الكثيرون من أصحاب الركشة إلى تزيينها وتوفير الموسيقى فيها لجذب الزبائن، كما فعل السائق بهاء ياسين الذي يقول إن “وتيرة العمل التي نحصل عليها ترتبط بجمال عربات الركشة”، ولذا لم يتردد في إنفاق ألف جنيه (156 أورو)، أي ما يقارب راتب شهرين في المتوسط في السودان، لتجميل عربته التي تدر عليه عائدا يوميا محترما.
ويجذب الشكل الفريد لعربته الزبائن الذين يظلون أوفياء له ولا يركبون مع غيره، فالشعور السائد بين الناس هو أن السائق الذي يزين عربته عادة ما يكون كثير الحذر وهو يقودها.
ويبدو أن تزيين الركشة يساعد السائقين الذين يعملون ساعات طويلة في جو مغبر ودرجات حرارة مرتفعة جدا على تحسين مزاجهم أثناء العمل، حتى وإن كان ذلك مكلفا لهم.
ويقول بهاء من داخل عربته التي تنبعث منها موسيقى الريغي “إن عاملت عربتك كما تعامل منزلك، يمكن حينذاك أن تعمل فيها بشكل مريح”.
ويفضل الكثير من السودانيين ركوب الركشة في الشوارع الداخلية التي لا تصلها حافلات النقل العام، وتنافس الركشة التاكسي في المدن السودانية المكتظة.
وخلافا للأحياء الشعبية، تتشدد السلطات في إجراءاتها لمنع حركة الركشة بالشوارع الرئيسية للعاصمة، خصوصا في وسطها الأكثر ازدحاما، نظرا لاحتضانه مقار الإدارات الحكومية والجامعات والشركات الكبرى.
عفاريت الطريق
رغم الشعبية الكبيرة للركشة التي باتت وسيلة النقل الأكثر انتشارا حيث يزيد عددها في الخرطوم عن 69 ألف ركشة حسب إحصائيات شرطة المرور، إلا أنها كانت عرضة للانتقادات بسبب “افتقارها لمعايير السلامة العامة وتسببها في زيادة معدل الازدحام والحوادث المرورية”، كما يقول ياسر ميرغني الأمين العام لجمعية حماية المستهلك وهي جمعية أهلية.
وأضاف ميرغني قائلا إن “شرطة المرور تتقاعس عن تنفيذ الضوابط التي وضعتها هي نفسها للتقليل من مخاطر الركشة”.
ونظرا لصغر حجمها مقارنة بمختلف السيارات الأخرى، فإنها قادرة على المناورة والاندساس فجأة بين السيارات، كالعفاريت حسب وصف بعض السودانيين لها، الأمر الذي يستوجب الحذر الشديد من جانب سائقي السيارات على الطريق.
وفي سوق أم درمان الكبير، أحد أكبر مراكز التسوق بالعاصمة السودانية، يعتمد الناس على الركشة في التنقل لا سيما وأنه ليست هناك خدمة مواصلات عامة رخيصة تقدمها الحكومة كما هو الحال في الكثير من الدول.
وفي السوق تسمع الكثير من الحكايات والآراء عن الركشة ودورها في حياة السودانيين، فهي كما تقول صفاء عثمان مكي الطالبة بجامعة الأحفاد للبنات “تقدم مساعدة كبيرة للمجتمع السوداني، وسائقوها عادة يحرصون على الركاب لأنهم بسطاء”.
ولكن رجال المرور أو “ناس الحركة” كما يطلق عليهم السودانيون، يرون أن الركشة تتسبب في حوادث كثيرة.
ويقول عثمان آدم سائق ركشة “إن للركشة سلبيات وهي أن معظم السائقين صغار السن وهم السبب الرئيسي في كثرة الحوادث لعدم الشعور بالمسؤولية والاستهتار بالمهنة، مما يجعلهم عرضة للحوادث”.
وخلال الأعوام الماضية، اتخذت السلطات حزمة من القرارات للحد من انتشار الركشة من بينها منع استيرادها والترخيص لها بالعمل داخل الخرطوم، قبل أن تتراجع عن ذلك لاحقا وتسمح بترخيصها شريطة أن يكون تاريخ تصنيعها مطابقا لعام الترخيص.
وشملت قرارات شرطة المرور أيضا منع الركشة من عبور طرق المرور السريع، علاوة على الجسور التي تربط بين مدن العاصمة الثلاث وهي الخرطوم وبحري وأم درمان والتي يفصل بينها النيلان الأزرق والأبيض بجانب نهر النيل.
وأشار ميرغني إلى أنه “رغم منع الركشة من عبور طرق المرور السريع، لكنها الآن منتشرة وحاصلة على ترخيص أيضا”.
ومن حين إلى آخر، تنفذ شرطة المرور حملات مكثفة لتوقيف الركشات غير المرخصة والتي يبلغ عددها نحو 27 ألف ركشة، حسب إحصائياتها.
المنقذ من البطالة
يقرّ الشاب الثلاثيني عبدالله الحسن، والذي يعمل سائقا في ركشة، بافتقارها لمعايير السلامة، لكنه تساءل “كيف ستعوض السلطات الفارق الذي سيخلفه منع الركشة من العمل؟”، قبل أن يضيف ما يراه محاسن أخرى للركشة مثل “توفيرها لفرص عمل في مجتمع ترتفع فيه نسبة البطالة”.
ويقول الحسن إن الآلاف من الطلاب يعملون الآن في الركشات، والكثير من الأسر تعتمد عليها في معيشتها.
وبعد أن فشل الكثير من خريجي الجامعات السودانية في الحصول على وظيفة تبدد مخاوفهم من دخول مستنقع البطالة، لجأوا إلى قيادة الركشة لتوفير المال الذي يمكنهم من تغطية تكاليف المعيشة، بدل الانتظار في صفوف العاطلين التي ليس لها آخر.
وقال الحسن الحاصل على درجة بكالوريوس في القانون “الآلاف من الخريجين يعملون الآن في الركشات لأنهم لم يجدوا وظائف في تخصصاتهم الجامعية”.
وتبلغ نسبة البطالة في السودان نحو 20 بالمئة من عدد سكان السودان الذي يبلغ نحو 38 مليون نسمة، بحسب إحصائيات رسمية.
وتابع الحسن “حتى الذين يجدون وظائف فإن دخلهم أقل بكثير مما يمكن أن يجنوه من العمل في الركشة”.
ويتراوح دخل سائق الركشة وفقا لإفادة السائق الشاب ما بين 60 إلى 80 جنيها في اليوم (7 – 9 دولارات أميركية) بخلاف مبلغ 30 جنيها (3.3 دولارات) يتم توريدها لمالك الركشة.
ويتفق ياسر ميرغني الأمين العام لجمعية حماية المستهلك مع الحسن في توفير الركشة لفرص عمل واعتماد الآلاف من الأسر عليها في معيشتهم، لكنه لا يرى أن ذلك مبررا كافيا للتساهل حيال الضوابط التي تنظم عملها. لكن عماد حمد الذي يعمل سائق ركشة قال إن زملاءه “يفضلون دفع الغرامة المالية المترتبة على المخالفات بدلا من الالتزام بالتوجيهات الصادرة من شرطة المرور والتي تمنعهم من دخول الطرقات الرئيسية وسط الخرطوم”.
وتابع حمد “نفضل الشوارع الرئيسية حيث يكثر الزبائن وبالتالي بإمكانك تعويض خسارتك في حال ضبطتك شرطة المرور”.
وتبلغ قيمة التسوية للمخالفات المرورية المتعلقة بالترخيص وعبور الشوارع الممنوعة للركشة 30 جنيها (3.3 دولارات).
وأشار ميرغني إلى مشاكل أخرى مرتبطة بالركشة وهي “تسببها في ارتفاع معدلات الجريمة من سرقة واغتصاب وترويج مخدرات وخمور وغيرها”.
ورأى أن من أسباب انتشار الجرائم المرتبطة بالركشات أن الكثير من الذين يعملون فيها أجانب دخلوا البلاد بطرق غير شرعية.
ويقول تسفاي وهو سائق ركشة إثيوبي الجنسية، “إن العمل المناسب لكل الإثيوبيين في السودان هو قيادة الركشة”، مضيفا “أعمل منذ سنوات في قيادة الركشة وأحصل يوميا على ما بين الستين جنيها سودانيا إلى الثمانين وقد أتجاوز ذلك أيام الأعياد والعطل الرسمية والجمعة”.
وهذه مشاكل تقر بها السلطات التي أصدرت في أغسطس 2013 قرارا يمنع الأجانب من قيادة الركشة، حيث يعمل عليها الكثير من الإثيوبيين والإيرتريين الذين لا يملكون تصاريح إقامة وبطاقات هوية رسمية. لكن حمد الذي يعمل سائقا لركشة منذ 5 سنوات، قال إن هذا القرار “يصعب تنفيذه بدليل أن الكثير من الأجانب يعملون الآن في الركشات وليس بمقدور السلطات تتبعهم خصوصا أولئك الذين يعملون داخل الأحياء الشعبية”.
ولا يقتصر استخدام الركشة على الخرطوم فقط حيث تنتشر في كل مدن البلاد، لكن بنسبة أقل.
وهناك عدة مسميات ومصطلحات وسط عالم الركشات في السودان، منها ما يطلق على الركشة القديمة (جلبة) والأفضل حالا منها (جنقور) والركشة الجديدة (المبكشة) ومكتملة الزينة (قرض) و(بابور) (ولورى) وغيرها من التسميات، على اختلاف المناطق والمدن.
وهنالك تسميات أخرى للسائقين القدامى مثل بكش معلمين وبكش فارات للسائقين المبتدئين، وتعتبر الكتابات على الركشات مميزة للموتر ليس إلا، وتعكس نفسية السائق (ويسمى الجوكي) في أغلب الأحيان.
ويسمى الجوكي الذي لا يراعي سلامة الركشة ويهملها دائما “الدباب” (لقب يطلق على المحاربين الذين شاركوا إبان الحرب الأهلية بجنوب السودان) وكذلك (الهراس أو الكتال).
ومن النادر أن تجد سودانيا لم يتنقل بالركشة في مهماته القصيرة، فضلا عن أنها أصبحت تستعمل لنقل طلّاب المدارس، خصوصا لذوي الدخول الضعيفة، وذلك برغم مخاطرها العالية، كما ظهرت الركشة أخيرا في حفلات الأعراس كمحاولة لإضفاء نكهة جديدة على هذه المناسبات.
السودان : "الركشة" تاكسي السعادة لفقراء الخرطوم!!
01.05.2017