أحدث الأخبار
الجمعة 01 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
1 2 3 41133
مقبرة وادي السلام : التاريخ حي بأكبر مقبرة في العالم!!
22.03.2017

يقضي الكثير من العراقيين أغلب أيام الأعياد الدينية والعطل الرسمية في أكبر وأقدم مقبرة في العالم تسمى مقبرة “وادي السلام” التي توجد في مدينة النجف جنوب غرب العاصمة العراقية بغداد، حيث يتزايد عدد القبور يوما بعد يوم مع تزايد عدد ضحايا الحرب والإرهاب
كتب فيصل عبدالحسن ..النجف (العراق) - تتحول مقبرة وادي السلام في مدينة النجف العراقية في الأعياد والمناسبات إلى معزى كبير يمتلئ بالرجال والنساء والأطفال، الذين يتنقلون بين الملايين من القبور.
ولا ترى فيها خلال أيام العيد إلا الباكين، والحزانى، والذين ارتسمت على وجوههم علامات استفهام مريرة وهم يبحثون بين القبور عن قبر عزيز فقدوه. فخلال الأعوام السابقة وبسبب الأحداث الدامية التي مر بها العراق اضطرت السلطات البلدية إلى بناء سور حول المقبرة، وتوسيعها من جهة الشرق، وفتح شوارع جديدة فيها، كشارع المغتسل الحيدري، الشهداء، المركز، والجديد، مما أدى إلى تسوية المئات من القبور بالأرض، ومعظمها قبور توقف أهلها عن زيارتها أو مضى على دفن أصحابها أكثر من ثلاثـة عقود.
وأكثر القبور التي تمت تسويتها بالأرض جاءت بسبب توسيع بعض شوارع المقبرة القديمة، بعد أن رفعت أنقاض القبور المهدمة بسبب الحرب، فقد شهدت المقبرة في العام 2004 معارك ضارية بين جيش المهدي والقوات الأميركية في المقبرة، وأدى ذلك إلى حدوث خراب كبير في عدد كبير من القبور، وخصوصا القبور التي يرتفع بناؤها إلى أكثر من ثلاثة أمتار فوق الأرض.
لذلك يحرص العراقيون على زيارة قبور موتاهم بين فترة وأخرى لمنع إزالتها لدفن موتى جدد مكان موتاهم، فيقومون خلال زيارتهم لتلك القبور بغسل واجهاتها بالماء، الذي يباع في عبوات بلاستيكية في أكثر من مئة كشك تم فتحها في المقبرة.
ويصل سعر عبوة الماء إلى ألفي دينار (دولاران ونصف الدولار)، كما تتوفر لزائري المقبرة عبوات صغيرة لماء الورد وسعف النخيل الأخضر، لوضعها على قبر المتوفى لبعث الرائحة الزكية حوله، وسعف النخيل لجلب الظل، وأيضا لإثبات لمن يتابع وضع القبور أنَّ القبر تمت زيارته حديثا حتى لا يجرؤ أحد على أزالته.
ويقول الباحث علي منشد إن “مقبرة النجف أو ما يسمى بمقبرة وادي السلام تضم أكثر من ستة ملايين ونصف المليون قبر، صنفتها منظمة اليونسكو منذ العام 2010 على لائحة التراث الإنساني العالمي، لكون عمرها أكثر من ألف عام، ولأن من بين قبورها قبور أنبياء، كسيدنا آدم ونوح وصالح وهود، والخليفة الراشد الرابع علي بن أبي طالب عليهم السلام جميعا. كما تضم قبور شخصيات دينية وسياسية وأدباء ومفكرين من العراق ودول العالم”.
ويؤكد المؤرخ الشيخ رضا محمود قدم المقبرة بقوله إن “عمر مقبرة النجف تجاوز الألفي عام، وليس ألف عام كما يعتقد البعض، كون التنقيب الأثري للبعثة الألمانية في جزئها القديم أثبت منذ العام 1932 أنها كانت مقبرة للمسيحيين قبل أن تتحول إلى مقبرة إسلامية. وهي بالمناسبة أقدم مقبرة مسيحية في العالم، حتى أنها أقدم من مقبرة الفاتيكان بروما”.
ويستطرد الشيخ محمود “الجزء الذي ضم القبور المسيحية يسمى بمنطقة ‘عين الشايع’ عند منخفض بحر النجف ومنطقة ‘أم خشم’ القريبة من منطقة ‘أبوصخير’، وهي تمتد إلى “المناذرة”، وحتى تصل ‘الحصية’ على امتداد طريق ‘نجف غماس’، ومساحتها أكثر من 1400 دونم”.
ويضيف المؤرخ محمود “ووجدت الكثير من الفخاريات التي رسم عليها الصليب في القبور، وكذلك العديد من الكتابات اليهودية على قسم آخر من القبور. ويعتبر وادي السلام مكانا للدفن مقدسا لدى الديانات التوحيدية التي سبقت الإسلام. والمقبرة ليست خاصة بموتى الطائفة الشيعية فقط كما يعتقد، بل هي تستقبل موتى المسلمين جميعا، وكل الأديان الأخرى، ولكن الشيعة يفضلون دفن موتاهم فيها لوجود ضريح الإمام علي بن أبي طالب القريب من المقبرة”.
ويشير الشيخ محمود ضاحكا “لا تتعجب من خلط العراقيين لأيام فرحهم خلال العيد بتذكر موتاهم وزيارة قبورهم، فمنذ القديم وسكان وادي الرافدين يخلطون الحزن بالفرح. والكثير من أعياد سكان الرافدين قبل الإسلام لا تخلو من تقاليد تعبر عن الحزن أكثر مما تعبر عن الفرح. فهناك قبور سبقت المسيحية بكثير وجد المنقبون فيها قناني زجاجية صغيرة فيها عطور، وأخرى فيها نبيذ وزيوت مقدسة، ومصوغات ذهبية، وملابس وآلات موسيقية، ورقيمات طينية فيها تفاصيل لمشتريات الميت”.
„ ويوضح علي بن سيد خضر الدفان (40 عاما) وهو صاحب مكتب لدفن الأموات مقره في أحد شوارع المقبرة الرئيسية، سر زيارات الناس للقبور في النجف بهذا الشكل المبالغ فيه خلال أيام الأعياد، فيقول “السبب الرئيسي أنّ الموت في العراق صار شائعا إلى درجة أن اليوم الذي لا يسمع فيه الناس بسقوط شهيد أو عدد من الشهداء أو قتيل وميت حَتْفَ أنفه يعد من الأيام النادرة”.
ويضيف سيد خضر “مكتبي من بين 550 مكتبا لدفن الموتى، منتشرة في الشوارع الرئيسية في المقبرة، وتوجد بينها مكاتب متخصصة لنقل المدفونين من قبر إلى آخر في مكان جديد أو لجمع العائلة موتاها في قطعة أرض واحدة اشترتها العائلة حديثا، ويتم النقل وفق ضوابط الشريعة الإسلامية، وبعد أخذ الموافقات الرسمية”.
ويوضح سيد خضر أن “كل مكتب لديه عدد من حفاري القبور وخلفة لبناء ما فوق القبر، أو لعمل ‘سرداب’ تحت الأرض، لجمع رفاة أفراد العائلة في مكان واحد. وهذه المكاتب تعمل نهارا وليلا، وهناك جيش من الفضوليين والنصابين أيضا الذين ينصبون على الناس ويبيعونهم قطع أراض في المقبرة ليست لهم وبأسعار مرتفعة تصل إلى أربعين مليون دينار أو أكثر (35 ألف دولار) لقطعة أرض لا تتجاوز مساحتها 20 مترا مربعا، وحين يأتي أهل الميت المدفون في زيارة الأربعين أو في عيد الأضحى لا يجدون قبر ميتهم بل يجدون قبرا لعائلة صاحب القطعة الشرعي، لذلك يحرص الناس بين فترة وأخرى على زيارة قبور موتاهم حتى لا يتم الاستيلاء عليها”.
ويشير سامي عناد (27 عاما) الذي يعمل خلفة بناء لواجهة القبور إلى وجود نوعين من القبور، تلك التي ترتفع فوق الأرض لمتر واحد أو 5 أمتار، وأخرى تحت الأرض تكون بعمق 8 أمتار، أو ما يسمى بـ”السرداب”. ويوضح أنه “يعمل بهذا العمل لأنه لم يجد عملا غيره بالرغم من أنه خريج معهد كهرباء منذ سنوات”.
ويتابع عناد “يكلف القبر البسيط بارتفاع متر واحد مبلغ 200 إلى 300 مئة ألف دينار (بين 150 و230 دولارا). وطبعا ليس ضمنها أُجور الخط أو الرسم، فهناك من يرغب في رسم ورود وزخارف على واجهة قبر ميته، وغير ذلك من الإضافات. أعمل الآن ضمن مكتب متعهد لدفن الموتى يقع في شارع المغتسل الحيدري، وقبل ذلك عملت في مقبرة سرايا السلام التابعة لمقتدى الصدر، ففيها يدفن من يستشهد من أتباع سرايا السلام، وهي مسيجة ومفصولة عن المقبرة الرئيسية. كانت أجرتي ممتازة، ولكن العمل فيها يتطلب البقاء لساعات كثيرة، والحضور ليلا ونهارا حسب الطلب. ففضلت العمل مع أحد المكاتب لساعات محددة لأنال حريتي في ما تبقى من يومي”.
ويضيف “السبب في حضور الناس أيام العيد إلى المقبرة يرجع إلى عدم وجود منافذ أخرى للنزهة في مدننا للأسف. لقد اعتادت العائلات والأقرباء الالتقاء في المعازي أو في الأعراس القليلة. وهم في العادة يأتون لتجديد العزاء على موتاهم، وبذلك يثبتون لأنفسهم أنهم أوفياء لأعزائهم”.
السيدة أم حسن (40 عاما) التي فرغت للتو من دلق الماء على واجهة قبر زوجها، ومسحت رخامته بقطعة قماش باعتناء شديد، تقول “فقدت زوجي في تفجير انتحاري العام 2012 وجئت مع أبنتيه سها (9 سنوات) وعبير (11 سنة) وحسام (20 سنة) وصلاح (17 سنة) لزيارة قبره”.
وأضافت وهي تمسح دمعتين سقطتا من عينيها “فقدت زوجي في تفجير ببغداد الجديدة، عندما كان عائدا من عمله. وفي كل مناسبة أو عطلة يلح علي الولد والبنتان لزيارة والدهم. وصار الوعد بزيارة القبر الوسيلة الوحيدة لأضغط عليهم ليحضروا واجباتهم المدرسية، ولا تقتصر الزيارة على القبر فقط فهي فرصة أيضا لقضاء وقت ممتع في مدينة النجف، والتبرك بزيارة ضريح الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، وتناول الكباب النجفي الشهير في أحد مطاعم المدينة القديمة، والعودة بعد ذلك إلى منزلنا في بغداد. زيارة قبر والدهم صارت ضرورة لاستمرارنا في الحياة!!

1