رأس العام ”: كلمة مؤلفة من عبارتين قابلتين للتأنيث والتذكير في لغة العرب، هذا بالإضافة إلى انفتاحها على حقول مجازية تأويلية ودلالية على الرغم من أنها مجرد مصطلح معني بوحدة قياسية زمنية لا أكثر ولا أقل، لكن التقويم الميلادي أخذ صدارته في الأزمنة الحديثة، وحظي بما لا يحظى به أي تقويم آخر. أمّا عن الأسباب فكثيرة، ولعل أبرزها هو أن تعتمده القوى المهيمنة اقتصاديا وثقافيا وسياسيا، بالإضافة إلى اقتران التقويم الميلادي وتداخلاته بحضارات قديمة، لكنها مازالت فاعلة.
*كتب حكيم مرزوقي..ما إن تبدأ السنة الجديدة في الإطلالة برأسها من بعيد، حتى يبدأ جميع الناس بالتحضّر والتحضير لها في شهر ديسمبر كانون الأول من العام الذي انقضت ولايته، ويتهيأ في مثل هذه الأيام للرحيل مرة واحدة وإلى الأبد، فلم تعد تعني أحداثه أحدا، كأنما هو أشبه برئيس تنتهي ولايته، ولا يحق له التجديد وفق دساتير الديمقراطيات الغربية، عندئذ لا تؤخذ تصريحاته على محمل الجد، ولا يهتم الناس بمواقفه حتى وإن كانت ذات تأثير بالغ.
الناس يصدقون القادم ولا يأبهون بالمغادر حتى في الأعوام التي كان لهم السبب في تحديدها وتمييزها وقياسها ضمن سلسلة الأيام ذات الأطراف المترامية.
الناس يتهافتون على كل جديد، والبشرية في طبيعتها “الماكرة” تتنكّر للقديم و”تتحرّش” بالذي سوف يأتي، فيأخذها الفضول نحو العلب والصناديق المغلقة لأن القادم هو مجهول إلى أن يعرف، مثير إلى أن يقول كلمته، وخطير إلى أن يثبت سلميته.. وكذلك مبهج إلى أن يخيب الآمال. النزوع نحو معرفة القادم وقراءة المستقبل، قديم قدم الإنسان في ملحميته الوجودية ومواجهته للأقدار، لذلك وجد العرافون والمنجمون، وتحلّقت جميع الشرائح الاجتماعية حولهم، ودون استثناء، تلبية للفضول الإنساني الذي لا يفرّق في أحيان كثيرة بين مثقف أو عامي، رجل أو امرأة، بل إن إحصائيات وتحقيقات ودراسات كثيرة، تشير إلى أن النخب السياسية والثقافية، في الشرق والغرب، هي أكثر الشرائح ترددا على العرافين والمنجمين الذين اتسعت سوقهم وراجت بضاعتهم في جميع أوقات السلم وأوقات الحرب.
„ المنجمون موجودون مع وجود النجوم والأفلاك، ولا ينقرضون إلاّ بانقراضها “، هذا ما أكده العراف التونسي الذي يلقب نفسه بـ”العالم الفلكي”، ويؤكد على “أصالة” مهمته و”علميتها” ويدعو إلى حمايتها من الدخلاء والمدعين، ويتباهى حسن الشارني بقائمة طويلة عريضة لأحداث توقعها ووقعت، وحين سألناه عن توقعاته لأحداث العام الذي سنستقبله بعد أيام قليلة، أشار إلى أحداث تبدو في مجملها عامة وقد يشترك في الحديث عنها الكثير من الفلكيين، وعندما طلبنا منه المزيد، أحالنا إلى كتابه الذي يباع بسعر باهظ الثمن نسبيا، أما عن التطرق إلى التفاصيل الخصوصية فلا سبيل إلاّ لطلب موعد مسبق من إدارة مكتبه، وهو أمر بالغ الصعوبة نظرا لتنقلاته العديدة وانشغاله الدائم.
الكثير من المنجمين هم من أصحاب الثراء الواضح، ويظهر ذلك من خلال مقرات إقاماتهم واستقبالهم لشخصيات معروفة من داخل البلاد وخارجها.
المنجّمون الذين تعرفنا إليهم، يباشرون عملهم بجدية كاملة، ويتعاملون معه كعلم لجميع الأغراض. وهم يدّعون أن حسابات التنجيم تنطوي على علم الحساب والهندسة، وتضع النجوم في تواريخ وأوقات معينة وفقًا لجداول مصنوعة مسبقًا. ويعرّف معظم المنجمين مهنتهم بأنها مزيج من الفنّ والحسابات مع الحدس.
الأداة الأساسية في التنجيم هي توقعات الأبراج وهي عبارة عن مخطط لمواقع الكواكب ووقت الولادة والأبراج، وهي 12 رمزًا رسمت على الشريط الخارجي لخارطة الولادة والتي تسمى “دولاب الأبراج”، أمّا النجوم فهي العلامات العشر المخططة داخل الرسم البياني للولادة، وتمثّل 10 أجرام سماوية، وهي: الشمس، القمر، عطارد، الزهرة، المريخ، المشتري، زحل، أورانوس، نبتون وبلوتو.
بلدان عربية كثيرة تهتم لأمر التنجيم وما سيقوله العرافون وقارئوا الطالع، حتى صار هؤلاء نجوما على القنوات التلفزيونية التي تتسابق لاستضافتهم عشية رأس السنة، وما يعني ذلك من أرباح مالية تجلبها الإعلانات، ويعتبر لبنان بلدا سبّاقا في هذا المجال فالجميع يستعد لمتابعة لائحة العرّافين وماذا سيقولون ليلة رأس السنة، حيث لكل قناة تلفزيونية عرافته أو عرافه.
أصول الكثير من المذاهب الفلكية التي تطورت لاحقا، تعود إلى قدماء البابليين الذين نظروا في نظام البشائر السماوية الخاص بهم، والذي بدأ في الظهور خلال منتصف الألفية الثانية قبل الميلاد، كما تؤكد مصادر تاريخية. انتشر هذا النظام في وقت لاحق من خلال البابليين والآشوريين في مناطق أخرى مثل الهند، والشرق الأوسط، واليونان.
معرفة الأسفل عبر النظر في الأعلى
كل المتحمسين والمهتمين بالتنجيم يؤكدون على أن الإنسان يتمتع بـ”قوى خفية” يقر بها الدين والعلم على حد سواء، وإن تضاربت بعض القراءات والتأويلات، ومسألة استشراف المستقبل كهاجس ظل يؤرق الإنسان منذ بدء الخليقة، يجيب عنها مهرة المنجمين وبررة رجال الدين وجهابذة العلماء والمفكرين دون تعارض.
دارسون ومهتمون بالأفلاك والنجوم في العصور القديمة وكذلك في الأزمنة الحديثة، يؤكدون أن هنالك علاقة بين حالة الأجرام السماوية وبين أعمال وصفات البشر. ويقول عبدالرحمن الباشا، أحد أعضاء الجمعية الفلكية في تونس بأن هذا الأمر لا يتنافى مع الدين ولا يمكن له أن يستفز منطق المتدينين المؤمنين بالعلم والمنطق.
ويحاول علم التنجيم أن يتكهّن بالمستقبل بحسب أماكن الأجرام السماوية. والأجرام السماوية الرئيسية التي يستخدمها علم التنجيم كما يقول الباشا، هي: الشمس، القمر، الكواكب السيارة في المجموعة الشمسية، خط الأفق والنقطة الأعلى في السماء.
العديد من المنجمين يزعمون أن هناك إمكانية لوضع أساس علمي أكثر صلابة لعلم التنجيم، بينما لا تأخذ الأوساط العلمية الحديثة في غالبيتها، علم التنجيم على محمل الجد. ويقول رشيد، أحد الدارسين للاهوت في قبرص “نبوءة أشعيا، في العهد القديم، تمّت«ها إنّ العذراء تحبل وتلد ابنًا»”. وأضاف “توجد إيحاءات إلهية كبيرة تُعطى إما لبعض الأنفس الخاصة أو لبعض القديسين”.
كانت المعتقدات الأساسية في علم التنجيم سائدة في أجزاء من العالم القديم، والتي تجسدت في القول المأثور “على النحو الوارد أعلاه، وكذلك أدناه”، واستخدم تايكو برايي (1546-1601)، وهوعالم فلك دنماركي شيد أفضل مرصد فلكي في أوروبا وأرسى معايير جديدة للرصد، عبارة مماثلة لتلخيص دراساته في علم التنجيم بقوله “أستطيع أن أرى ما هو في الأسفل من خلال النظر إلى أعلى”، وعلى الرغم من أن المبدأ القائل بأن الأحداث في السماوات تنعكس على الأرض كان سائدا بين معظم تقاليد علم التنجيم في مختلف أنحاء العالم، كانت هناك في الغرب مناظرة تاريخية بين المنجمين حول طبيعة آلية التنجيم. وتناولت المناقشة أيضا ما إذا كانت الأجرام السماوية تبشر بالأحداث.
ويقول يعقوب (موريتاني الجنسية)، ويقدم نفسه كعالم فلكي، بأن من لا يصدق المنجمين النابغين والصادقين منهم وليس المشعوذين، يشكك في الدين والعلم في ذات الوقت، ذلك أن قراءة الأفلاك علم له ضوابطه وقواعده وأهله من العارفين.
ويضيف يعقوب الذي يمارس “مهنته” كقارئ للطالع متنقلا بين مدن عربية وأفريقية، أن ما جعل عامة الناس يشككون في علم التنجيم هو كثرة الدخلاء والمدعين، ويقول بأنه كانت لديه عضوية في الاتحاد الدولي للفلكيين، وفقدها بسبب ما يسميه بتسييس المنظمة مشككا في نزاهة بعض أفراد هيئتها متهما إياهم بالتمييز والتفرقة في منح العضوية، وكذلك عدم كفاءة بعض المنتمين إليها. عضو برلماني تونسي رفض الكشف عن اسمه، يؤكد أن لديه منجما معروفا يقصده بمعدل مرتين أو ثلاث في السنة، وأنه يثق فيه جيدا ويمكنه من أكثر أسراره، وأن كل تنبؤات هذا المنجم قد صدقت، وأولها فوزه في الانتخابات التشريعية، كما أن هناك “بشائر سارة” تنتظره ولا يريد الإفصاح عنها الآن.
وتشير إحصائيات في تونس إلى أن نسبة الذين يترددون على العرافات والمنجمين تزداد في الأوساط السياسية، أما المحير في الأمر كما ذكر أحد الإعلاميين هو أن نسبة الذين يقدمون أنفسهم كعلمانيين وليبراليين ويساريين، هي الأكثر اهتماما بمسألة البرج والطالع، مقارنة بالمحافظين والإسلاميين.
ويبرر هؤلاء البرلمانيون في تونس ترددهم على العرافين، بأن كبار ساسة الغرب الأوروبي كانوا ولا يزالون يأتون في زيارات خاصة إلى عرافي تونس المشهود لهم بالمهارة، فلماذا نحرم أنفسنا من هذه “الثروة الوطنية “، كما يقول السيد (م) الذي كان مرشحا لمنصب وزير في إحدى الحكومات السابقة.
مسألة ارتباط المنجمين بالقادة والسياسيين، قديمة منذ أن بدأ الإنسان يعلي من سقف طموحه ويخشى على انتصار صنعه من الضياع، وخير دليل على ذلك هو ما تحفل به الميثيولوجيا اليونانية والدراما الشكسبيرية من حكايات أهل السلطة مع العرافات والساحرات وقراء الطالع.
أما عن السهرات التلفزيونية ليلة رأس السنة مع المنجمين، فأصبحت تقليدا في البلاد العربية، ويرى الكثير، ومن فئات عمرية مختلفة، أنهم معنيون بها، خصوصا في ما يخص الجانب السياسي والأحداث الإرهابية، كما أنها مسلية حتى للذين لا يعتقدون فيها، ثم أنها ليست بدعة عربية، بل يوجد لها جمهور عريض في الغرب الأوروبي والأميركي.
العلم والدين يتفقان على تكذيبهم
المراجع التاريخية تشير إلى أن التنجيم وعلم الفلك، كانا ممتزجين حتى العصور الوسطى، ولكن في بداية العصر الحديث تم استبعاد التنجيم واعتبروه علمًا زائفًا، ولعل هذا خير دليل على أن المنجمين هم فئة أقرب إلى الشعوذة ولا ترتبط إلاّ بعصور الانحطاط، أمّا من يطرح سؤالا معاكسا بقوله إن التنجيم يزدهر اليوم في عصر الثورة الرقمية، فهو خاطئ في ما ذهب إليه، ويبدو له بأن التنجيم رائج لمجرد ظهور مواقع المنجمين على الشبكة العنكبوتية، فالمسألة في نظر الكثير ممن يسخرون من المنجمين والمرتادين لـ”عياداتهم “، لا تعدو أن تكون إعلامية بحتة، فعلمك بالأشياء والأحداث لا يعني وفرتها وكثرتها، فالمنجمون كانوا “أكثر من الهم على القلب” كما يقول صلاح (مهندس سوري يعيش في باريس)، ويضيف بأن ما كان يبحث عنه الناس بدافع الحذر من الأسوأ أو الأمل في الأفضل، يحدث الآن بفضل التطور العلمي.
بعض المشككين في العرافين والمنجمين، يذهبون أبعد من ذلك، ويرون أن الدوائر الاستخبارية والسياسية في أوروبا وأميركا، تستثمر هذا الأمر فتلمّع بعض الأسماء في عالم التنجيم والتنبؤات للتأثير على العقول البسيطة في العالم الثالث، ذلك أن النفس البشرية تتحكم فيها بعض الإيحاءات، وتذهب من حيث لا تدري في الاتجاه الذي رسم لها معتقدة أن هذا هو قدرها.
ويبرهن عادل، وهو شاب ليبي يعيش في تونس، على أن المخابرات الأميركية تلعب دورا كبيرا في صناعة المنجمين والعرافين، وتستخدمهم كفخاخ لتصيد بعض رجالات القرار في حكومات ودول العالم الثالث، وذلك لأن سياسيي هذه البلدان يترددون كثيرا على مكاتب المنجمين ودور العرافين ويغدقون عليهم العطاء، ويضيف عادل الذي يشتغل في جريدة إلكترونية أنه “يعرف الكثير من الأسماء ذات المواقع المتقدمة في حكومات عربية وتتردد على منجمين من ذوي الارتباطات المشبوهة”.
لعلّ أكثر ما يعزز فكرة ارتباط المنجمين بأجهزة أمنية ودوائر صنع القرار والتحكم في الرأي العام هو المنجمة، ميريام بنياميني، والتي تعتبر المتنبّئة الأشهر في دولة إسرائيل، وهي تكتب عمودًا أسبوعيًا في صحيفة “يديعوت أحرونوت”، تنبّأت بنياميني منذ سنوات بأن الرئيس أوباما لن يكون رئيسًا للولايات المتحدة، وبعد أن فاز قالت “أخطأت، وهذا يحدث أيضًا في علم التنجيم”.
العلاقة بين التنجيم والمسألة الدينية، تأخذ نمطا مركّبا وملتبسا، فرجال الدين -ومن مختلف العقائد- يتفقون على تكذيب المنجمين، لكنهم يتحفظون على قضايا يرونها إلهية وانتقائية تخص المتقدمين في العبادة الذين يصطفيهم الله دون غيرهم من البشر.
الشيخ محمد نقري رأى أنّ موقف الدين الإسلامي من التنبؤ بالأحداث المستقبلية من باب التكهن لا يقبله العقل السليم ولا الدين. ويقول: لقد وردت في ذلك أحاديث نبوية كثيرة مثل”من أتى عرّافا أو كاهنًا فصدّقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد”، و”ليس منا من تطيّر أو تطيّر له أو تكهن أو تكهن له أو سحر أو سحر له ومن أتى كاهنًا فصدّقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد”. أما توقّع الأحداث من باب الاستنتاجات والتحليلات فهو أمر ضروري ويدعو إليه الدين.
الأب يونس مونس، دعا إلى عدم الخلط بين العلم والتكنولوجيا التي تستبق حركة النجوم والكواكب. أما متى وكيف، فلا أحد يعرف الغيب ويدركه إلاّ الله وحده. وعدا ذلك، يقول رجل الدين اللبناني المسيحي “كل ما يقوله قارئو الغيب هو هزء بعقول الناس واستخفاف بالعلم”.
ويحظى علم التنجيم بنقد حادّ من قبل عدة دوائر علمية. فالرأي الشائع في الدوائر العلمية هو أن علم التنجيم ليس أكثر من خرافة. ويدعي العلماء أن الفكرة القائلة بأن الترتيب العشوائي للنجوم، والتي بعضها قريب منا والبعض الآخر بعيد ولكن في نفس خط أفق النجوم القريبة، يؤثر على مصير الإنسان على هذا الكوكب الصغير، هي فكرة لا يوجد لها دليل تجريبي.
التوجه نحو العرافين والمنجمين وقارئي البخت والطالع في العالم العربي، ظاهرة تدعو إلى الفزع ودق أجراس الخطر أمام تفشي الجهالة، وهي ليست مقتصرة على فئات وشرائح تهتم بها على سبيل الاستئناس أو ما شابه، بل تمتد وتتجذر وتتفشى كالوباء والأفيون في المجتمعات الفقيرة.
كما أن اللجوء للعرافين والمنجمين في مجتمعاتنا صار بديلا عن التداوي في المستشفيات، وليس أمرا يتعلق بالتسلية كما هو الحال لدى الفئات الميسورة من برجوازيتنا العربية التي تفتقر إلى الخلفية الثقافية.
أما العرافون فبدورهم ينتمون في أغلبيتهم بالأصل إلى تلك الفئات الفقيرة التي تلجأ لأساليب الاحتيال في سبيل الاستثراء السريع حتى أن أحد الصحافيين كتب “التنجيم أسهل بكثير من الكتابة الجادة أو الموضوعية، ولا يحتاج إلى أكثر من التعامل مع هواجس الناس وأمنياتهم.
*المصدر : العرب
المنجمون في مدخل العام الجديد.. يضيئون أم يضللون!!
27.12.2016