الزحف العمراني الذي تشهده تونس وظاهرة البناء دون رُخص في المناطق الغابية يهددان البيئة ومكوناتها، إذ تسبب التمدد العمراني والبناء الفوضوي في انقراض الغزال الأطلسي الذي لاحقته الحروب والصيد الجائر منذ ما يزيد عن مئة عام. إلا أن الاهتمام بالبيئة دفع البعض من الناشطين والجمعيات إلى تهيئة السبل لعودة الغزال الأطلسي الذي لا يراه التونسي في السنوات الأخيرة إلا في الصور، وذلك عبر تجربة قد تساهم في إكثاره وتعميمه على مختلف المناطق التي يمكن أن يعيش فيها.
سليانة (تونس) - على سفوح الجبال وسط البلاد التونسية، وبين غطاء طبيعي أخضر من الأشجار النادرة، التي يتسابق إليها ما يزيد على 83 نوعا من أنواع الطيور، عاد غزال الأطلس إلى الركض مرة أخرى بعد غياب قارب الـ116 عاما.
هذا المشهد الذي افتقدته تونس منذ أكثر من قرن من الزمن إثر اختفاء غزال الأطلس، بسبب الحروب والصيد العشوائي والزحف العمراني، لاح مجدّدا بعد جلب 43 رأسا من غزال الأطلس من أسبانيا مؤخرا ليستقر في موطنه الأصلي بالبلاد التونسية.
وفيما يشبه رحلة مصالحة بينها وبين محيطها الأصلي، انطلقت الغزلان القادمة من منطقة “ألمارية” الأسبانية منذ أيام تركض على سفح جبل “السرج” بمحافظة “سليانة”، وسط أنواع عدة من أشجار القيقب النّادرة والفرنان والصنوبر الحلبي والسرول، إلى جانب عشرات الأنواع من الطيور كصقور الشاهين والعقاب.
يشار إلى أن السنوات الأخيرة شهدت أشغالا مكثّفة لتهيئة الحديقة الوطنية بـ”جبل السَرج” على مراحل بكلفة جملية ناهزت 14 مليون دينار، وتمثّلت في بناء متحف إيكولوجي وفتح وتعبيد الطريق الرّابطة بين قرية سيدي حمادة والحديقة وفتح مسالك فرعية، إضافة إلى التنوير بالطاقتين الشّمسية والهوائية وبناء فضاءات لإيواء الغزلان.
وأوضح رئيس دائرة الغابات بمحافظة سليانة هيثم العامري أنه “تم جلب الدُّفعة الأولى من غزلان الأطلس التي تضم 22 رأسا إلى حديقة جبل السّرج بالطائرة عبر المطار العسكري بالعوينة ثم بواسطة الشّاحنات، وبتأطير من مختصين في مجال الحيوانات البرية.
وتم اتباع التمشي نفسه في جلب الدفعة الثانية التي تضم 21 رأسا، ليصبح المجموع 43 رأسا، منها 10 ذكور".
وأضاف خلال موكب التسليم الذي حضره ممثلون عن الأطراف المشاركة وسفير أسبانيا بتونس خوان بيريز دوريغا، أن “جلب هذه المجموعة من الغزلان الأطلسية تم في إطار التعاون بين وزارة الشؤون المحلية والبيئة ووزارة الفلاحة والموارد المائية والصيد البحري والجمعية التونسية للحفاظ على الحياة البريّة من جهة وبين المجلس الأسباني الأعلى للبحوث العلمية من جهة أخرى".
ديناميكية بيئية
عملية استرجاع 43 رأسا من غزال الأطلس تمت على مرحلتين قبل أيام بشراكة بين باحثين وعلماء في مجال البيئة من تونس وأسبانيا، في إطار البرنامج الوطني للمحافظة على الحياة البرية في تونس.
وإعادة توطين هذه الفصيلة من الغزال من شأنها أن تخلق ديناميكية بيئية على المدى البعيد بعد العناية والاهتمام بها، ومن ثم توزيعها على عدد آخر من المحميات والحدائق التونسية، وإعادة تنشيط هذه الأماكن وجلب الزوار إليها من جديد.
عبد القادر الجبالي، الباحث التونسي في علم البيئة وإدارة التنوع البيولوجي، يقول “بعد ما حدث من انهيار شبه كامل لغزال الأطلس في تونس قمنا باتصالاتنا مع الباحثين والمهتمين به في منطقة ألمارية الأسبانية نظرا للخبرة التي يتمتعون بها في العناية بهذه الفصيلة طيلة 45 سنة، وقمنا بإقناعهم بالتعاون وتحقيق هذا المشروع”.
ويضيف الجبالي، وهو أيضا نائب رئيس الجمعية التونسية للحفاظ على الحياة البرية (مستقلة)، وهي صاحبة المبادرة التي حرصت إلى جلب هذا الحيوان لتونس
من جديد، أن “بشائر نجاح تجربة إعادة توطين غزال الأطلس ستظهر عندما تتزايد أعدادها بعد موسم التكاثر في شهري أبريل ومايو”.
وحسب الباحث البيولوجي فإنّ العناية بالغزلان ومتابعتها علميا تتمان بوضع بعض الشارات في أعناقها ومتابعتها بالأقمار الصناعية.
ويقول الناشط البيئي رياض الهاني، إن نجاح إعادة توطين الغزال الأطلسي في جبل السرج رهين نوايا وإيمان سكان المنطقة وكل التونسيين بأهمية وقيمة البيئة في حياة الإنسان، ملمّحا إلى إمكانية اصطدام هذا المشروع بمصالح المسؤولين وميسوري الحال الذين يمسكون بزمام السلطة والذين يقول عنهم الهاني “إن لا علاقة لهم بالبيئة أمام مصالحهم”، وهو لا يستغرب أن يكون الغزال الأطلسي مستهدفا من قبلهم باعتبار أن أغلبهم قد يتجهون إلى صيد الغزال على أساس أنه هواية الأثرياء.
وعن كيفية استفادة العنصر البشري من مثل هذا النوع من المشاريع، يقول الجبالي إن “كل مشروع للمحافظة على الحياة البرية وإعادة توطين الحيوانات فيها يستوجب التفْكير في كيفية استفادة الإنسان منه”.
ويتابع قائلا إن “أولى الخطوات تكون بخلق عملية مصالحة للتونسي مع بيئته وطبيعته، فيجب أن نتخلص من اعتبار الحيوان البري طريدا، بل لا بد من اعتباره عنصرا مهما في هذه الطبيعة حتى لا ينقرض كما انقرض في السابق”.
ووفق الباحث فإن “قيمة 43 رأسا من الغزال الأطلسي تصل إلى 130 ألف يورو قدمت مجانا إلى تونس في إطار برنامج الصداقة التونسي الأسباني”.
وبالعودة إلى تاريخ اختفاء هذا الفصيل من تونس يُتبين أن “انقراضه تزامن مع فترة الحرب العالمية الأولى (1914 - 1918) والاستعمار الفرنسي لتونس (1881 - 1956) وهي فترة حروب عرفت انقراض حيوانات عديدة أخرى بالبلاد منها الأسد الأطلسي والنمر والحيرم الأطلسي وغيرها”، حسب قول الجبالي.
ولم تكن الحروب وحدها عامل انقراض لهذا النوع من الحيوانات، بل اكتساح الفلاحة لمجال كبير من البيئة، وهدم الجبال لتصبح ضيعات فلاحية، ساهما أيضا في اختفاء غزال الأطلس بعد أن تحولت بيئته التي يعيش فيها إلى أخرى غير ملائمة، بحسب الجبالي.
ويقيم غزال الأطلس وسط حظائر تابعة للحديقة الوطنية التي تتوسط جبل السرج وتمتد على مساحة 1720 هكتارا.
وعن تلك الحديقة يتحدث مدير إدارة الغابات بمحافظة سليانة، هيثم العامري، قائلا إن “المحمية الموجودة بالحديقة تأسست عام 2010 على مساحة 100 هكتار وهدف تأسيسها تنموي بالأساس″.
هذا الهدف يتمثل في خلق ديناميكية في هذه المنطقة سواء من خلال إجراء المزيد من البحوث العلمية المتعلقة بالبيئة والثروات الطبيعية، أو من خلال جعلها مزارا دائما لأصدقاء البيئة لاكتشاف طبيعتهم الثرية.
عبدالمجيد الدّبار، ناشط بيئي ورئيس جمعية تونس إيكولوجيا (مستقلة)، لا تفوته أي مناسبة متعلقة بالبيئة والطبيعة، وقد قدم إلى جبل السرج بمناسبة استقبال غزال الأطلس كغيره من محبي الطبيعة.
وبهذه المناسبة يقول إن “هذا ثروة بيئية هامة لا بد أن تعود على بلادنا بالمنفعة، نحن بحاجة اليوم إلى خلق توازن بيئي خاصة على إثر ما يشهده المناخ من تغيرات”.
آفاق السياحة البيئية
يقول عبدالمجيد الدّبار إن “ظاهرة السياحة الإيكولوجية (البيئية) بدأت تتطور في تونس، وهذا أمر جيّد لأنه يعقد مصالحة بين المواطن ومحيطه من شأنها أن تغير النظرة النمطية للطبيعة والحيوان”.
وتأمل السلط المعنية أن تفتح محميّة جبل السرج آفاقا واسعة في المجال السياحي بمحافظة سليانة حيث يعتبر جبل السّرج من أهم المحميات البيئية بالبلاد التونسية ويمتاز بثرائه الطّبيعي والبيئي وبينابيعه المائية ووفرة وتنوّع الحيوانات البرية التي تعيش فيه وبخصائصه النباتية والغابية التي من أهمها شجرة “الدُل” أو “قيقب مونبليي” النادرة التي بدأت تتكاثر في السّنوات الأخيرة بثنايا الجبل، إضافة إلى أشجار الفلين والفرنان.
ويحتضن جبل السرج مغارة عين الذّهب الشهيرة والتي تعتبر من أجمل المغاور العالمية لاحتوائها على أعمدة وهوابط منسدلة أو متدلية في شكل ستائر وثريّات طبيعية.
يشار إلى أنه منذ عام 1985 عمل باحثون أوروبيون بالتعاون مع الإدارة العامة للغابات (حكومية) على إعادة توطين عدد من الحيوانات على غرار السياف والمها ونعام شمال أفريقيا.
ولكن مشروع جلب غزال الأطلس يعد هو الأول الذي يتم على أسس علمية، على حد قول الباحث البيولوجي عبدالقادر الجبالي.
ويعتبر غزال الأطلس من أندر الغزلان ويوجد حاليا بموطنه الوحيد في شمال منطقة الصحراء الكبرى ويعيش في تشكيلة عريضة فوق مختلف التضاريس مثل التلال الرملية والصخرية وغابات البلوط والصنوبر ومراعي الصحراء الحجرية وهضابها.
وتقلصت أعداد هذا النوع من الحيوانات بسبب الإقبال على جلوده ولحمه خاصة بعد أن أصبح اصطياده يتم بالمسدسات الحديثة الآلية.
"غزال الأطلس" يعود إلى موطنه تونس بعد قرن من الغياب!!
02.11.2016