الرمان فاكهة من فواكه الجنة استقرت عند العرب في المشرق فصنعوا منها عصيرا ودبسا لما فيها من فوائد صحية وغذائية، وجعلوها مؤونة لهم لا تغيب عن مطابخهم طيلة أيام السنة
بيروت – الرمان فاكهة لذيذة جميلة وحلوة الطعم، تعتبر في الأساطير القديمة رمزا للخصوبة والحياة، وفي عصرنا هذا باتت تشكل مادة صحية يتم وصفها كعلاج للبعض من الأمراض أو للوقاية منها. فالعصير المستخرج منها فيه الكثير من الخصائص المفيدة للجسم لأنه يحتوي على الكثير من مضادات الأكسدة والفيتامينات ويوصف لخفض نسبة الكولسترول ومعالجة مشكلات الفم واللثة، كما يساعد في عملية الهضم والوقاية من تكوّن الحصى في الكلى، وله طعم مميز يستخدم في العديد من المأكولات اللبنانية كالسلطات والفتوش و”المحاشي”، لنكهته الممزوجة بالحلو والحامض.
وأصبح دبس الرمان مكونا أساسيا من مكونات “المؤونة” البلدية اللبنانية وجزءا من “المطبخ اللبناني”، يدخل في العديد من الأطباق، فنرى إقبالا على صنعه يدويا وخصوصا في القرى الجبلية، حيث تزدهر أيضا زراعة الرمان الذي تنضج ثماره في نهاية الصيف وبداية الخريف، ويستخدم الحامض منه والبعض من “اللفاني” (الأقل حموضة) في صناعة الدبس. ولا تدخل في صناعته مكونات أخرى (البعض يضيف القليل من حمض الليمون والسكر)، إذ يتم عصر حبيباته ووضعها على النار لساعات عدة حتى تتبخر المياه ويصبح العصير مكثفا وسميكا لونه أرجواني، يعبأ بعدها في زجاجات معقمة ويتم حفظه من عام إلى آخر.
أم ميلاد من بلدة القليعة، اعتادت صنع دبس الرمان لما له من فوائد صحية جمة، إضافة إلى نكهته المميزة في البعض من المأكولات، واعتبرت أنه “زمن العودة إلى الأصول والأكل الصحي، ودبس الرمان أحد هذه المكونات التي لا تدخلها أي صناعة أو مواد حافظة لأننا نصنعه بأيدينا، وشجر الرمان نزرعه ونعتني به قرب بيوتنا”.
وأوضحت أن “طريقة صنع دبس الرمان سهلة لكنها تتطلب وقتا طويلا، بدءا بعملية تفتيت الحبوب وعصرها ثم وضعها على النار بعد إضافة القليل من السكر والحامض، وتركه يغلي حتى يصبح سميكا، ليرفع حينها ويترك ليبرد”.
وإذا كانت أم ميلاد تصنعه لعائلتها، فإن سيدات أخريات اعتمدنه كمصدر للدخل، مع الاعتناء بجودته أيضا والمحافظة على طبيعته، خاصة في ظل تزايد الطلب عليه سواء في المنطقة أو خارجها، كما أن عددا من الجمعيات النسائية بات يروج مؤخرا لهذه الأنواع من الصناعات الغذائية الطبيعية من بينها “جمعية سيدات الخيام” التي تضم نحو 20 امرأة تطوعت معظمهن لتحضير المؤونة البلدية وبيعها بأسعار تشجيعية يعود ريعها لتغطية نشاطات الجمعية.
وتقول رئيسة الجمعية صباح أبوعباس إن “شروط النظافة مهمة جدا في مثل هذا النوع من العمل الذي يتطلب صبرا طويلا بدءا من تفتيت الرمان وعصره وصولا إلى غليه”. وعن تقنيات صنعه أشارت أبوعباس إلى أنه “في كل طبخة نمزج 10 صناديق رمان حامض وصندوق رمان لفاني بمعدل 200 كيلوغرام، وهو ما ينتج تقريبا 20 زجاجة قياس متوسط”، لافتة إلى أن دبس الرمان يشهد إقبالا لافتا من قبل المواطنين في الآونة الأخيرة.
تراث لا يندثر
تجتمع غالبية العائلات الكورانية مع بداية شهر أكتوبر في أجواء تراثية حول استخراج دبس الرمان للمؤونة البيتية. ونسبة قليلة جدا من تصنعه للمتاجرة به، إذ أن ما يفيض عن حاجة البيت يقدم هدايا من ضمن “الهدايا البلدية” التي يعتز الكوراني بإهدائها لأصدقائه من خارج القضاء.
وتأخذ “خورية” (موظفة) إجازة من عملها لتستخرج بيديها مع زوجها وأولادها والبعض من الجيران دبس الرمان. وقد تحول الأمر لدى العائلة إلى تقليد سنوي يجمع العائلة، حتى المغتربين منهم، ليحملوا معهم بعضا من قناني الدبس التي تخفف بطعمها “البلدي” شيئا من حرمان الغربة.
أما نجيب غانم فهو منهمك مع بداية الشهر في التحضير للموسم، وحجز النسوة للمساعدة في العمل، حيث يقطف سنويا ما يقارب الـ500 كيلوغرام رمان من النوع الحامض من بساتينه، ليستخرج الدبس منها، فيما يبقي على البعض الآخر منها في الأشجار ليقطفه بعد 15 يوما من أول تساقط للأمطار، أين يكون قد تحول طعمه من حامض إلى حلو، وهذا النوع يسمى بـ”اللفاني”، فيتجنب بذلك “عقصات” ذبابة الشرق الأوسط التي تعمل على إتلافه وتساقطه، وبالتالي يحافظ عليه طوال فترة الشتاء معلقا في أغصانه بإحدى زوايا المنزل وأكله بعد نقعه في المياه كي تلين قشرته ويسهل تقشيره.
وتشجع شانتال نجار على استخراج الدبس من الرمان أكثر من أكل حبوبه للمحافظة على هذا التراث ولأهمية الدبس الصحية، إذ أن الكثير من الكورانيين يستعملونه في العديد من المأكولات أو يتناولون منه ملعقة يوميا قبل الأكل لتأثيره الفعال في تنشيط القلب وتنقية الدم.
وعلى الرغم من مشقات العمل في استخراج الدبس، إلا أن ماريو قبرصي يثابر عليه ويعتبره بركة مثل سائر الكورانيين الذين يخصصون أياما لصنع هذه المؤونة المحببة لقلوب الكبار والصغار وشهية المذاق.
وتبدأ عملية قطاف الرمان منذ الفجر ويتعاون فيها جميع أفراد العائلة، لينتقلوا بعدها إلى تقطيع الثمار وإسقاط بذورها وعصرها وتصفيتها، ومن ثم غليها في دست واسع الفوهة على الحطب. كما توزع الأدوار في العمل بأوقات كثيرة ويجتمع الأصحاب والأصدقاء للتسلية أحيانا والمساعدة في أحيان أخرى، نظرا لما تتطلبه هذه العملية من وقت. وفي حين يفضل العديد من الكورانيين استخراج دبس الرمان قبل تساقط الأمطار لتبقى الحموضة مرتفعة فيه، إلا أن هناك من يرغب في طعمه المخفف أو “المكسور” فيبقيه على الأشجار حتى تساقط المطر، حيث أن كل 12 كيلوغراما من ثمر الرمان يستخرج منه كيلوغرام من الدبس، وفي البعض من الأحيان تستخرج هذه الكمية ما يقارب السبعة كيلوغرامات نظرا إلى عدم ري الأشجار بالمياه.
ويظل دبس الرمان البعلي (دون ري) الألذ والأشهى والأوفر نظرا إلى إيجابياته بعد استهلاكه للكثير من الوقت في الغليان، ولا يتطلب إضافة الملح إليه على خلاف ما يقوم به التجار لزيادة الوزن. ويذكر أن العديد من عمليات الغش طالت صناعة هذه المؤونة في البعض من الأقضية المجاورة المشهورة بتجارتها، إذ تضاف لكل 10 كيلوغرامات من دبس الخروب سبعة كيلوغرامات من دبس الرمان تقريبا وكيلوغرام ونصف من حامض الليمون ويباع على أنه دبس رمان بلدي.
واللافت أن قرية الكورة حافظت على استخراجها لدبس الرمان عبر سنوات رغم التطور اللافت للعصر وانهماك أغلب العائلات في الاشتغال خارج منازلها. كما حافظت هذه الشجرة على ثباتها في أرض الكورة من دون مشكلات تذكر، كونها معمرة وتقاوم الأمراض ولا تتطلب الكثير من العناية، سواء من حيث الطرق الزراعية وعمليات الرش والري أو من حيث التطعيم والتقليم المستمر وعدم احتياجها ليد عاملة كثيرة. كما تزرع أشجار الرمان في حدائق المنازل والبساتين، حيث لا تكاد تخلو حديقة كورانية منها.
مورد رزق للعائلات
وفي منطقة حاصبايا (جنوب لبنان)، ومع بداية فصل الخريف ينشغل الناس، ولا سيما ربات البيوت بإكمال مؤونتهن، وفي هذه الفترة يتركز الاهتمام على صناعة دبس الرّمان الذي يعتبر من أساسيات المؤونة الحاصبانية، نظرا إلى قيمته الغذائية.
ويشكل دبس الرمان مورد رزق أساسي للبعض من العائلات اللبنانية التي تسوق البعض من إنتاجها، خصوصا في ظل تزايد الطلب عليه في المطاعم ومن قبل المواطنين الحريصين على تناول غذاء طبيعي.
ووفقا لأم هيثم (ربة منزل)، فإن عملية صنع دبس الرمان تحتاج إلى الكثير من الجهد والصبر، بدءا من عملية قطفه وصولا إلى نزع حباته وحتى طبخه.
وتتابع أم هيثم “في البداية يتم قطف الرّمان الحامض ونزع حبيباته ثم تعصر الحبيبات وتصفى لتستخرج منها البذور وبعد ذلك توضع على النار ويضاف إليها السكر وحامض الليمون بمعدل ثلثي كوب من السكر وثلث كوب من حامض الليمون مقابل أربعة أكواب من الرّمان ولمدة تتراوح بين الساعة والساعة والربع مع القيام بتحريكه حتى يصبح المزيج لزجا”. وهناك نوع آخر من دبس الرمان يصنع في معامل خاصة به، وتكون نسبة حامض الليمون فيه كبيرة.
وتقول أم هيثم، “ازداد الطلب عليه لفوائده الصحية، لذلك يظل العرض كبيرا، وبالتالي الأسعار مقبولة”.
والرّمان مقاوم للشيخوخة وأمراض القلب ولا تقتصر أهمية دبس الرّمان على النكهة المميزة التي يضفيها على الطعام فحسب، بل له العديد من الفوائد الطبية، وفق ما أثبتت الدراسات العلمية الموثقة، فقد اكتشف علماء سويسريون مادة مستخلصة من ثمار الرّمان وفيها مكونات محتملة مقاومة للشيخوخة.
وذكر باحثون في معهد “إيكول بوليتكنيك فيدرال دي لوزان”، أن إعطاء مادة “يورولايثين إيه”، وهي مادة حمضية تفرزها بكتيريا، لفئران متقدمة في السن قد أسهم في تحسين قدرتها على الركض بنسبة 42 بالمئة.
وينتج الجسم هذا النوع من الأحماض، حين تقوم البكتيريا في القناة الهضمية بتحليل مكوّنات موجودة في الرّمان، تعرف باسم “إيلاجيتانينس”.
ومن ناحية أخرى وجد باحثون في معهد “كاتالينا لعلوم القلب والشرايين” في أسبانيا، أن الرّمان قد يقضي على البعض من الضرر الذي تخلّفه المأكولات السريعة، فيحمي الأوعية الدموية ويقي من الأزمات القلبية والسكتات الدماغية.
يذكر أن العلماء درسوا تأثير حبة دواء تحتوي على مواد كيميائية مأخوذة من الرّمان تدعى “بوليفينول” في الدورة الدموية عند الخنازير، وبالتالي يمكن أن يكون دواء واعدا للبشر.
وقالت الباحثة لينا باديمون إن “دعم النظام الغذائي بالبوليفينول المستخرج من الرّمان، يمكن أن يساعد في الحماية من مشكلات البطانة التي تعتبر من المؤشرات لتصلب الشرايين وسكتات الدماغ”.
وجدير بالذكر أيضا أن للرّمان قيمة غذائية كبيرة، فهو يحتوي على نسبة جيّدة من الماء تقدر بـ84 بالمئة، وهي نسبة عالية للغاية كما يحتوي أيضا على البروتين بنسبة 3 بالمئة، وهي نسبة معتبرة، و10 بالمئة مواد سكرية و1 بالمئة حامض الليمون و2 بالمئة من الألياف الغذائية.
دبس الرمان عصير معتق لا يغيب عن بيوت اللبنانيين!!
26.10.2016