هل يختبئ اللبنانيون في كل مناسبة عرس أو مراسم دفن أو خطاب سياسي من الرصاص الطائش الذي لا يختار ضحيته؟ نعم، فكل الذين وقعوا ضحايا رصاصة ونجوا من الموت يفرون كلما سمعوا إطلاق رصاص، بل ينتابهم الرعب من أن ضحية جديدة ستضاف إلى قائمة الأموات أو المستشفيات، حالة هلع وقلق يعيشها اللبنانيون من هذه الظاهرة التي لم تأخذ بشأنها السلطات إجراءات زجرية تقي المواطنين من الموت الطائش.
بيروت - احتفالا بولادة طفل أو بإطلالة زعيم عبر التلفزيون، بفوز مرشح في الانتخابات أو بنجاح تلميذ في شهادة تعليمية، في مأتم شاب قتل في حادث سير أو على الجبهات، في مناسباتهم السعيدة والحزينة، يطلق اللبنانيون الرصاص في الهواء في ممارسة تحولت إلى ظاهرة قاتلة.
ويعكس تنامي هذه الظاهرة حجم انتشار السلاح الفردي بلا ضوابط في لبنان منذ الحرب الأهلية (1975-1990) ويطرح ضرورة التشدد في تطبيق القوانين وتحديثها، وقد دفع القوى الأمنية إلى تفعيل تدخلها لملاحقة المتورطين.
ومنذ شهر مارس، أحصت القوى الأمنية مقتل أربعة أشخاص على الأقل بينهم ثلاثة أطفال في إطلاق نار في الهواء، وإصابة ثمانية أشخاص آخرين برصاص طائش.
ويقول النائب غسان مخيبر، مقرر “لجنة حقوق الإنسان” في مجلس النواب اللبناني، إن “ظاهرة إطلاق الرصاص الطائش معيبة فعلا وترتقي إلى نوع من الجريمة المتمادية، وهي ليست فلكلورا، وإن كانت تعود إلى العشرات وربما المئات من السنوات، حيث اعتاد اللبنانيون لسبب أو لآخر أن يطلقوا الرصاص في الهواء، لأن السلاح الحربي منتشر انتشارا واسعا جدا عندهم منذ القدم، وزاد بعد الحروب المتكررة”، التي مر بها هذا البلد.
ولفت إلى أن تفشي الظاهرة يعود كذلك إلى “تركّز السلاح بيد مجموعات كبيرة سواء ميليشيات حالية أو ميليشيات سابقة (لم تسلم كل سلاحها بعد انتهاء الحرب الأهلية عام 1990)، وبالتالي هناك انتشار واسع للسلاح الحربي الذي تحول في لبنان إلى وسيلة من وسائل التعبير عن الأحاسيس إما ابتهاجا وإما حزنا”.
ورأى أن ذلك “أمر مخيف”، لأن ظاهرة إطلاق “الرصاص الطائش منتشرة في كل المناطق في لبنان، وتراها في كل الحالات عند الدفن وعند العرس والنجاح المدرسي، وعند ظهور زعيم سياسي على التلفزيون”، مبينا أن إطلاق الرصاص في الهواء “صار وسيلة يلجأ إليها السياسيون ليُظهروا مدى شعبيتهم”.
ونجا حسين عزب (15 عاما) بأعجوبة خلال شهر مايو من الموت، بعدما اخترقت رصاصة طائشة صدره وهو يسير في الشارع مع أفراد من عائلته في الضاحية الجنوبية لبيروت خلال الاحتفال بنتائج الانتخابات البلدية.
ويقول حسين بعد تصفحه صورا على هاتف خلوي تظهره مستلقيا على سرير المستشفى وأخرى للرصاصة التي تم استئصالها، “شعرت بنار دخلت إلى صدري، بدأ الدم ينزف، خفت كثيرا. اعتقدت أنني سأموت”.
ويقول إنه بات يسارع إلى الاختباء في كل مرة يسمع دويا حتى لو كان مجرد مفرقعات، ويضيف “تغيرت حياتي، أصبحت عصبيا كثيرا.. لا أتمكن من النوم وعندما أكون نائما أستفيق مصابا بنوبات هلع”. وتقول والدته وفاء (45 سنة) “هم كانوا يحتفلون بالفوز في الانتخابات فيما كنا نبكي دما”.
وفي هذا الشهر، أصيب رجل في البقاع (شرق) برصاص طائش أطلق احتفالا برؤية الهلال عشية عيد الفطر، وقتل طفل في بيروت إثر صدور نتائج امتحانات الباكالوريا الرسمية، وتملأ أخبار ضحايا هذا الرصاص صفحات وسائل الإعلام.
وغالبا ما يصيب الرصاص الطائش الناس في الطرقات أو على الشرفات أو حتّى داخل منازلهم أثناء عمليات التشييع أو خلال الأفراح في لبنان، حيث تكثر هذه الحوادث أكثر من أي بلد آخر.
ومن ضحايا الرصاص الطائش، باتينا رواد رعيدي (ثماني سنوات) التي أصيبت برصاصة قاتلة وهي في منزلها في قرطبون جبيل خلال نقل جثمان من مستشفى “سانت ماريتيم” لإقامة مراسم الجنازة، فدخلت باتينا جثة إلى ذاك المستشفى الذي وصلته متوفية عمليا وحية نظريا.
الأفراح تتحول إلى أحزان
ويقول الأب رواد “لن تعود باتينا إلى مدرستها، لن تجلس على مقعدها وتضج حياة وفرحا في ملعبها، ثمة من جعل منها ضحية إرضاء لعنجهية السلاح المنفلت ولنشوة القوة المتخلفة. فكم من باتينا بعد سنخسر، وكم من دموع سنذرف كي يتعظ الهمجيون وتستفيق دولة القانون؟”.
وتتكرر ظاهرة الرصاص الطائش في مناطق لبنانية مختلفة، لا سيما في الضاحية الجنوبية، إحدى أبرز مناطق نفوذ حزب الله، وخصوصا خلال خطابات الأمين العام للحزب حسن نصرالله.
ويقر قاسم (36 عاما)، وهو بائع متجول في مدينة صيدا (جنوب)، بإقدامه على إطلاق الرصاص ابتهاجا في مناسبات عدة على مدى السنوات الماضية، لكنه يشدد على أنه لا يفعل ذلك “بين البيوت، إنما في الساحات العامة بعدما أطلب من الناس الابتعاد”.
ويقول “أول مرة أطلقت فيها الرصاص كانت منذ 14 عاما حين ولدت ابنتي عروبة تزامنا مع ذكرى استقلال لبنان في 22 نوفمبر”، مضيفا “كانت أول فرحة لنا وأطلقت حينها 75 رصاصة”.
وكرر قاسم إطلاق رصاص الابتهاج، بحسب قوله، بعد شفاء ابنته من مرض أصيبت به، وفي كل عيد استقلال، ومع ولادة طفله الثاني. وبرغم إصابته سابقا بالخطأ خلال تنظيفه مسدسا، يقول “السلاح زينة الرجال”، ثم يؤكد أنه تخلى مؤخرا عن سلاحه.
وإذا كان من السهل على عناصر حزب الله الذي يرفض التخلي عن ترسانته الضخمة بحجة مواجهة إسرائيل، الحصول على السلاح، إلا أن ذلك لا يقتصر عليهم، إذ ينتشر السلاح الفردي بكثافة في لبنان، ومعظمه غير مرخص، وفق ما يؤكد مسؤولون وناشطون في المجتمع المدني.
ويقدر فادي أبي علام، رئيس حركة “السلام الدائم”، وهي منظمة غير حكومية تنشط في مجال التوعية على مخاطر استخدام السلاح، عدد قطع السلاح الخفيفة “بنحو أربعة ملايين قطعة سلاح أي عدد سكان لبنان”. ويستدرك “صحيح أنه لا يوجد سلاح في بعض المنازل لكن هناك العشرات في بعضها الآخر”.
وينطبق على حيازة السلاح واستخدامه قانون الأسلحة الصادر العام 1959، ويعاقب “كل من أقدم على إطلاق النار في الأماكن الآهلة بالحبس من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات وبالغرامة من 500 ليرة إلى ألف ليرة (2.6 دولار) أو بإحدى هاتين العقوبتين”. وتحول هذه العقوبة التي مرّ عليها الزمن بفعل تغير قيمة العملة، دون تعرض مطلق النار لعقوبة فعلية.
ويقول النائب غسان مخيبر الذي تقدم مؤخرا باقتراح لتعديل هذه الأحكام “طالما للقاضي الحرية في اختيار إحدى هاتين العقوبتين فإنه يتجه إلى إنزال عقوبة الغرامة البسيطة جدا”.
ووقع عشرة نواب من مختلف الأحزاب الرئيسية على اقتراح القانون، تمهيدا لمناقشته والتصويت عليه عند أول جلسة للبرلمان المعطل منذ 2014 بسبب أزمة سياسية حادة في لبنان.
ويطالب الاقتراح بتشديد عقوبة السجن حتى 20 عاما ورفع قيمة الغرامة حتى 12500 دولار، وبإنزال العقوبتين معا بحق كل من يطلق الرصاص وتجريده من سلاحه.
بيان بيبي (31 عاما)، واحدة من ضحايا “الرصاص الطائش”، وهي فلسطينية تعيش في لبنان وتعمل في مجال التصميم الدعائي، وتعرضت لإصابة برصاصة في العام 2013، أثناء سيرها في شارع “الحمرا” في بيروت، وكاد الأمر أن يودي بحياتها.قالت، إن من أطلق الرصاصة التي أصابتها لا يزال مجهولا، لكنها علمت أن المكان الذي تعرضت فيه للإصابة برصاصة اخترقت ظهرها ورئتها كان فيه خطاب سياسي لأحد الزعماء (لم تذكر اسمه)، وأن مجموعة من مناصريه قاموا بإطلاق الرصاص العشوائي في الهواء، كما هي العادة في لبنان حين يظهر أي زعيم سياسي في خطاب.
حملة للحد من الرصاص المجاني
ولا تحمل بيان حقدا شخصيا على من أصابها أو من يطلق النار العشوائي، وترى أنه يفعل ذلك نتيجة طاقة سلبية مختزنة فيه بسبب البيئة التي نشأ فيها.
وتحدثت الشابة الفلسطينية عن عقدة ترافقها منذ إصابتها، مضيفة “لا يمكن أن تصدق ماذا يحصل لي (عند بث خطاب لزعيم سياسي)، لقد خلقت لي الحادثة عقدة”.
وأردفت “أعمل في منطقة محاذية لمنطقة تنتمي غالبيتها إلى حزب سياسي معين، وفي كل مرة يكون هناك خطاب (لزعيم هذا الحزب)، وعندما يبدأ إطلاق النار أسارع للاختباء في الممر بين الغرف لنصف ساعة تحسبا من الرصاص الطائش”.
وأطلقت قوى الأمن الداخلي حملة توعية بعنوان “بتقبل تقتل؟” للحد من هذه الممارسة، التي يصفها رئيس شعبة العلاقات العامة في قوى الأمن الداخلي العقيد جوزف مسلم بـ”المرضية والقاتلة”.
ويوضح “أطلقنا خدمة بعنوان ‘بلِّغ’ لتشجيع المواطنين على إبلاغنا عن مطلقي النار مع الحفاظ على سرية هوية المبلغين”، مضيفا “بتنا نعلن عن توقيف مطلقي الرصاص يوميا لنعلم الناس أننا نلاحقهم ونريد تعاونهم لوقف هذه الظاهرة”. وأوقفت قوى الأمن الداخلي 136 شخصا بين الأول من يونيو والرابع من الشهر الحالي.
ويقول أبوعلام الذي وثقت جمعيته سقوط المئات من الضحايا بين قتيل وجريح منذ العام 2000 “إطلاق الرصاص يأتي تعبيرا عن مشاعر فرح وحزن، لكن السماء لم تبلع يوما رصاصة”.
وندد مركز الخيام لتأهيل ضحايا التعذيب بمسلسل إطلاق الرصاص العشوائي والذي يذهب ضحيته جرحى وشهداء معظمهم من الأطفال، وقال في بيان “إن الرصاص الطائش لم يعد طائشا لأنه أصبح ممارسة عادية ومنظمة، ومن يطلق الرصاص في الهواء إنما يطلقه على الناس جميعا، على أطفالنا وأهلنا، وبالتالي فإنه قاتل ومجرم شجعه على الاستمرار في إجرامه أولا غياب المحاسبة والملاحقة من قبل الأجهزة الأمنية، وثانيا عدم جدية القوى السياسية التي اكتفت بالمناشدات الخجولة”.
وختم البيان “لذلك، فإن مركز الخيام يدعو الأجهزة الأمنية إلى ملاحقة مطلقي النار وسحب تراخيص الأسلحة واستنفار البلديات ومعاقبتهم بجرم القتل الجماعي، مطالبا القيادات السياسية برفع الغطاء عن العابثين بأمن المواطن، وإرهاب الأطفال”.
الرصاص الطائش ضيف قاتل في مناسبات اللبنانيين!!
19.07.2016