البائع المتجول كان أحد شرارات الثورة التونسية التي بنى عليها الشباب أحلاما صغيرة لكنّها مصيرية، ويتمثل أهم هذه الأحلام، التي دفع ثمنها دما، في الشغل الذي كان قبل الحرية والكرامة، وتكسّرت هذه الأحلام مع الحكومات المتتالية التي تولاها “قوم” لم يكن لهم في الثورة باع فلم يلتزموا بمطالب الشباب الذين تيقنوا أن الثورة اختطفت من أيديهم ورجعوا إلى حيطان البطالة، فاختار بعضهم البحث عن لقمة العيش على قارعة شوارع المدن كتجار متجولين رفضتهم السلطة والمحلات التجارية والشرطة البلدية معا.
تونس - طالبت المنظمة الرئيسية لأرباب العمل في تونس، الاثنين الماضي، حكومة الحبيب الصيد بمكافحة “آفة” التجارة الموازية والباعة المتجولين غير المرخص لهم في العاصمة تونس، محذرة من أن نشاط هؤلاء بات يهدد العديد من تجار العاصمة الرسميين بالإفلاس.
وتأتي هذه المطالب في وقت يستعد فيه الباعة المتجولون لموسم رمضان الذي يعتبرونه موسمهم، حيث تزدهر فيه تجارتهم مما يساعدهم على تأمين جزء من أعباء الحياة، وهم المعيلون لأسر فقيرة بعد أن أجبرتهم البطالة على هذا الاختيار المر الذي جعلهم عرضة لملاحقات الشرطة بشكل يومي وازدراء أصحاب المحلات الذين يعانون بدورهم من ركود اقتصادي.
ودعا الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية في بيان الحكومة إلى “التصدي الفعلي للتجارة الموازية والانتصاب الفوضوي (الباعة المتجولون) وكل المظاهر المزرية المرتبطة بنشاطهم والتي أضرت بصورة العاصمة وبالمدينة العتيقة وتسببت في خسائر فادحة للمهنيين من المنتمين إلى القطاع المنظم”.
ودعا الاتحاد إلى “تكوين لجنة مشتركة رفيعة المستوى بين الاتحاد والحكومة للبحث عن حلول جدية وواقعية لآفة التجارة الموازية”.
والباعة المتجولون لم يختاروا هذه المهنة الشاقة بل أجبرتهم الظروف القاسية على البحث عن لقمة العيش لهم ولعائلاتهم بدل البطالة والانحراف، لكن الكثير من سكان العاصمة يتذمرون من هؤلاء الباعة في الشوارع والأزقة ومحطات النقل.
وكان من المقرر أن ينفذ تجار العاصمة إضرابا عاما، الثلاثاء، احتجاجا على هذه الأوضاع، لكن اتحاد الصناعة والتجارة أعلن عن “تعليق الإضراب (..) قصد القيام بالمساعي اللازمة لتحقيق” مطالب التجار الرسميين.
وتجد السلطات التونسية صعوبات في التصدي إلى ظاهرة الانتصاب الفوضوي التي تفاقمت نتيجة الانفلات الأمني منذ ثورة 2010. إذ يعرض المئات من الباعة سلعا متنوعة أغلبها صينية مقلدة في شوارع العاصمة والتي باتت بمثابة الأسواق الفوضوية التي تعطل حركة المرور وتسيء لجمالية المدينة خاصة أن العشرات من الباعة ينتصبون في الشارع المؤدي إلى المدينة العتيقة، الموضع السياحي بقلب العاصمة.
معاناة الباعة
وليس من السهل إيجاد مكان على أحد أرصفة شوارع العاصمة بالنسبة إلى الشباب الذين اختاروا أن يمتهنوا هذه التجارة بصفة مؤقتة كما يقولون، لينتقلوا إلى محلات أو يجدون شغلا بديلا لهذه المهنة الشاقة. فمحمد العقرباوي القادم من محافظة القيروان يعاني يوميا من إيجاد المكان المناسب قبل أن يجد مكانا صغيرا أمام محل لبيع الملابس الجاهزة في أحد الأنهج الناشطة اقتصاديا ليعرض بضاعته المتواضعة والمتكونة من بعض الملابس والجوارب وبنطلونات جينز رخيصة الثمن.
ومحمد الذي يبدأ عمله صباحا، حوالي الساعة العاشرة، ويتواصل إلى حدود الساعة السابعة مساء، يقضي يومه محاولا إغراء الزبائن بشراء بضاعته وفي نفس الوقت عينه على مداهمات الشرطة البلدية وبعض اللصوص الذين لا يغيبون يوما عن الشوارع المزدحمة بالمارة.
ويقول محمد، هذا العمل شاق حيث لا يمر يوم دون مشادات كلامية وعراك مع الشرطة أو اللصوص أو أصحاب المحلات، حتى أنه دخل أكثر من مرة السجن بسبب مشادات وعراك، “إنه عمل لا أجني منه سوى المتاعب، لكنه أفضل من البطالة”. ويستذكر محمد أول مرة قدم فيها إلى العاصمة من إحدى قرى القيروان قائلا “انقطعت عن الدراسة بسبب الظروف العائلية، ظللت بعدها لسنوات عاطلا عن العمل فلا شغل في قريتنا، لذلك قررت المغادرة إلى تونس العاصمة لأعمل عند أحد أصحاب البسطات في شوارع المدينة قبل أن أقرر العمل لصالحي. رأس مال مثل هذه التجارة لا يستحق الكثير من المال، لكنه يتطلب الكثير من الصبر والعناء”.
تجارة مرة
والعلاقات متوترة جدا بين أصحاب المحلات التجارية الذين يدفعون الإيجار والأداءات والباعة المتجولين الذين يقدمون بضائع رخيصة الثمن فيقبل عليها الزبائن الذين تدهورت مقدرتهم الشرائية ولم يعودوا قادرين على مجابهة متطلبات الحياة وغلاء الأسعار.
ويشتكي بعض الزبائن من تصرفات هؤلاء الباعة الذين يتميزون بسلوك غير أخلاقي يتجسد في بذيء الكلام وسوء الأعمال والعراك اليومي بين بعضهم أو مع المارة. وتذكر نزيهة حادثة لا تنساها، حيث تقول “في إحدى ليالي رمضان الماضي ألقى صاحب بسطة صغيرة لا يتجاوز عمر 16 سنة لعبة مفرقعات ‘فوشيك’ على أقدام المارة وكانت امرأة مارّة مصادفة، فانهارت من هول الصدمة وكان مصيرها المستشفى”.
ومثل هذه الأعمال جعلت النظرة إلى الباعة المتجولين يشوبها الكثير من الدونية من أصحاب المحلات والمارة على حد سواء، لكن نورالدين، الذي يعمل في هذه التجارة منذ أكثر من 15 سنة، يقول “إنهم (أي الباعة) تعودوا على هذا الاحتقار. لا يهمهم سوى كسب لقمة عيشهم ودفع إيجار البيت ومستلزمات أطفالهم اليومية”.
كر وفر
التجارة الموازية في شوارع تونس العاصمة كرّ وفرّ بين الباعة والشرطة البلدية تشبه لعبة الأطفال، لكنها ليست كذلك، بل هي تلاعب بمصير عائلات وأطفال. إنها معاناة يومية بين الشرطة البلدية والباعة تنتهي بالهرب أو حجز البضاعة، حيث يستحيل بعد ذلك استرجاعها، ما يعني حجز كل رأس مال البائع، لكن بعض الباعة وخاصة القدامى وجدوا حلولا غير شرعية لتأمين تجارتهم، تجسدت في دفع رشاوى لرجال الأمن البلدي أو المسؤولين عن مستودع الحجز.
وتحدث عملية الكر والفر بلبلة وفوضى في الشوارع، فيرتبك المارة وينزعج الزبائن خاصة الذي هم بصدد شراء شيء ما أو ينوون شراء بعض السلع، فيتعاطف بعضهم مع الباعة كشكري الذي تساءل حين عملية مداهمة وهو بصدد شراء لعب لأطفاله، “لا أفهم سبب هذه الملاحقات المجحفة من قبل رجال الأمن البلدي، أليس من الأفضل ترك هؤلاء الشباب يكسبون لقمة عيشهم بالحلال بدل أن ينحرفوا ويصبحوا قطاع طرق؟”.
ومداهمة رجال الشرطة البلدية للشوارع والساحات المكتظة بالباعة المتجولين، أصبحت أمرا معتادا ومتوقعا في كل لحظة، ما يجعل جميع الباعة يقظين طوال الوقت “كر وفر والحياة تستمر” بهذه العبارة يختصر محمد قصته في شارع شارل ديغول، مشيرا إلى أنه يضطر في الكثير من الأحيان إلى دفع رشوة حتى يتمكن من الحفاظ على مورد رزقه، وأضاف محمد “لم يتغير شيء بعد الثورة سوى أنهم كانوا يطلبون الرشوة صراحة، أما اليوم فهم يطلبونها خلف الجدران”.
وأكد عبدالوهاب، وهو أحد الباعة المتجولين، أن رجال الأمن قاموا بحجز بضاعته في كل فرصة يقبضون عليه فيها، مضيفا أنهم في أحيان كثيرة لا يسلمونه وصلا في المحجوز، وكشف أنهم يتعرضون إلى اعتداءات وانتهاكات من قبل رجال الأمن بشكل شبه يومي، مضيفا أن الأمنيين يلتفون حول بضائعهم ويصادرون الكثير منها باستخدام القوة. وبعض الباعة اختصر هذه المعاناة اليومية، فلجأ إلى بيع سلعته بالقطعة الواحدة، كالجاكيت أو الساعة أو النظارة الشمسية سلاحه في إقناع الزبائن هو القسم بأنها سلعة فاخرة وأصلية وقادمة من بلد المنشأ عن طريق مهاجر يتاجر في مثل هذه البضائع. وهؤلاء الباعة يتعرضون إلى المضايقات لكن يصعب على رجال الأمن البلدي حجز كل بضاعتهم لأنه يسهل إخفاؤها، وإن احتجزتها الشرطة فهم لا يأبهون لأنهم لا يحطون كل رأس مالهم فيها، بل يشترون بالقطعة أو القطعتين.
تأثيرات سلبية
للتجارة الموازية نفع جزئي في امتصاص جزء من العاطلين عن العمل إلا أن ضررها أكثر من نفعها بحسب الخبراء، حيث أن آثارها السلبية خطيرة ومتعددة الأبعاد، فهي لم تترك مجالا اجتماعيا ولا قطاعا اقتصاديا إلا استهدفته.
ويعود ظهور الباعة المتجولين وتكاثرهم إلى ما قبل سنة 1991، حيث كانت كل الأنشطة التجارية خاضعة لنظام الترخيص سواء التجارة الداخلية أو الخارجية ثم وقع تحرير قطاع التجارة الداخلية، وكانت الغاية من وراء التحرير خدمة الاقتصاد الوطني لكن دون توفير شروط إنجاح هذه السياسة، مما أفرز انفلاتا وفّر إلى جانب سياسات تهميش الجهات المحرومة وتفاقم ظاهرة البطالة، إطارا خصبا لنمو ظاهرة التجارة الموازية.
ويرى خبراء الاقتصاد أن التجارة الموازية أثرت سلبا على المقدرة الشرائية العامة نظرا إلى أنها تعتبر أحد أسباب ارتفاع الأسعار وتساهم في إعاقة دور السلطة التنفيذية في تعديل الأسعار بالشكل المجدي وفي إضعاف النسيج الاجتماعي والاقتصادي الوطني، وكذلك في تراجع الاستثمار الداخلي والخارجي، كما كان لبعضها الأثر الضار على صحة المستهلك وما يعنيه ذلك من عبث بالرأس المال البشري باعتباره أهم عنصر من عناصر الثروة داخل المجتمع وعلى الوضع الأمني والاستقــرار عموما، لما ألحقته من اضطراب في السياسات العامة للسلطة التنفيذيـة وإفقــادها الفاعلية المطلوبة والنجاعة المرتقبة لحمايـة المستهلك وحسن إدارة الشأن الاقتصادي، إضافة إلى أنها عمقت هوة التهميـش بين العديد من المناطق.
ويؤكد هؤلاء أن التجارة الموازية تتسبب في التقليل من الكميات المعروضة في الأسواق المنظمة قانونيا، وتبعا لذلك وبحسب قانون العرض والطلب ترتفع الأسعار مما ينعكس سلبا على المقدرة الشرائية للمواطنين عموما والحال أنه لو ضخت الكميات الكبيرة المعروضة خارج هذه الأسواق بداخلها لازداد العرض وعدلت الأسعار ووجد الجميع مصلحته سواء كان مستهلكا أو تاجرا منتجا أو موزعا.
الباعة المتجولون في تونس.. كر وفر والحياة تستمر !!
01.06.2016