يحفل سوق الهرج في بغداد بالعجيب من السلع الثمينة والبضاعة البخسة، من التحف القديمة إلى المواد المنزلية والكهربائية، والساعات والأحذية، والخردة والطيور والمسابح والدراجات، إلى الصور التاريخية والملابس، كل ذلك يعكس المراحل الزمنية التي مرّ بها العراق عبر التاريخ، لكن هذا السوق بدأ يفقد ملامحه في ظل الفوضى والحروب.
بغداد - الهرج في اللهجة العراقية الدارجة تعني الصخب والفوضى، والتسمية هنا تنطبق على السوق الأحمدي والذي تغيرت تسميته إلى سوق “الهرج” حيث تسمع الأصوات العالية والضوضاء والصخب بين البائعين والدلالين الذين يروجون لبضاعتهم المتنوعة من التحف النادرة إلى مستلزمات المنازل والأجهزة الإلكترونية والملابس وحتى الأعمال الفنية.
ويعود تأسيس هذا السوق الذي يقع في وسط المدينة ويمتدّ حتى سوق السراي إلى العهد العثماني حيث كان يحتوي على محال بسيطة مبنية من الآجر، وقد ترك على وضعه إلى أن جاء أحد الوزراء العثمانيين فاستهواه السوق، وحاول ترميمه وزرعه بالورود والأشجار وأعيد تبليطه وتجهيزه بالماء والكهرباء، وصارت تباع فيه الأسلحة القديمة مثل السيوف والخناجر وكذلك الساعات القديمة والحلي والفضة وغيرها من الأشياء.
وفي العهد الملكي تغيرت السلع المباعة في هذا السوق، حيث تنوعت المعروضات فضمت سلعا ومنتجات قديمة ومستخدمة وخردة تناسب كل شرائح المجتمع الفقيرة والغنية، من أجهزة كهربائية وتحف من الأنتيكة والساعات والمسابح والطوابع والنياشين وحتى الأثاث، فهو سوق لا يختص بنوع من البضائع والسلع، وإنما يعرض فيه كل شيء، ومن لم يكن له محل فيه اتخذ من الرصيف مكانا لعرض بضاعته في ممرّ السوق.
الأدوية الطبية والبديلة لا تغيب عن سوق الهرج، بل إن بائع هذه الأدوية التي لا يعرف مصدرها يقدّم نفسه على أنه معاون طبي يقرأ الوصفات ويقدّم النصائح، وعلى طاولة “المعاون الطبي” يجد المريض دواء لكل الأمراض، حتى المنشطات الجنسية تتوفر عنده وبأسعار زهيدة، ففي حالة استعمال عقار مثل الفياغرا ينصح البائع الزبون بأن يتناول قرص الفياغرا على معدة فارغة، ثمّ يتناول بعد ذلك وجبة طعام مغذية.
ويقول التجار القدماء إن رؤساء ووزراء وشخصيات زاروا سوق الهرج منذ العهد العثماني واستمرّ ذلك إلى وقت قريب، وفي عام 1935 غنت أم كلثوم في ملهى “بدور” الكائن في سوق الهرج.
ويقول أبوفهد صاحب محل لبيع وتصليح الساعات القديمة “لهذا السوق شهرة ومكانة سابقا، إذ كان يرتاده على مدار العام الكثير من الوفود الأجنبية والعربية، لاحتوائه على التحف والأنتيكات”.
ويؤكد ذلك جواد كاظم صاحب محل لبيع المسابح والهدايا، “الكثير من الشخصيات الأجنبية كانت تزور هذا السوق، وأتذكر منها السفير الروسي في التسعينات والسفير الإماراتي الشيخ احمد بن سعيد والسفير اليوناني نيكولاس″.
سوق الهرج لم يعد على حاله اليوم بسبب الحروب والفوضى الأمنية التي عمت البلاد منذ 2003، إضافة إلى ظهور بعض الأسواق العصرية والتي تتوفر فيها المطاعم والمقاهي والسلع الأجنبية.
يقول أبوفهد “كان السوق عامرا بالناس والبضائع النادرة، حيث كنا نبيع ونشتري العديد من الساعات الثمينة والنادرة ذات القيمة الباهظة مثل ‘باتيك فيليب’ و’رولكس′ و’كارتير’ وغيرها، أما الآن فهذه الساعات شبه مفقودة أو تتواجد بالسوق مرة واحدة في السنة، لأن هواة هذه الساعات كلهم غادروا العراق ولم يبق إلا القليل منهم”.
وبدأت بعض المهن تندثر في السوق بعد أن انتشرت الأجهزة الإلكترونية، يقول توفيق النعيمي “أنا أعمل في مهنة تصليح الراديو منذ أكثر من 50 سنة وكان عملنا جيدا جدا، أما الآن بعد انفتاح السوق على البضائع المستوردة والمستورد الرديء، انحسر عملنا كثيرا رغم محاولاتنا للتواصل في المهنة من خلال تصليح الأجهزة الحديثة، ولكن الجهاز الجديد زهيد جدا مقارنة بالتصليح، مما أضرّ بعملنا كثيرا، لذا أستطيع القول، إن سوق الهرج الآن شبه متوقف عن العمل ولم تبق منه إلا الذكريات”.
ويقول أحد تجار الأنتيكة والذي تجاوز السبعين من العمر أن سوق الهرج انشطر إلى سوقين، فمازال الأصلي القديم منهما في منطقة الميدان، ويقع الثاني الأكثر جدة وحداثة في منطقة الباب الشرقي، لكن الحروب والفوضى غيّرتا كل شيء وضيعتا من أهل بغداد قديمهم وجديدهم.
كاظم الذي اعتاد ارتياد السوق منذ ما يزيد عن العشرين عاما يقول “تعوّدت الحضور إلى سوق الهرج صباح كل جمعة، للتمتع برؤية البضائع القديمة؛ آلات التسجيل والأسطوانات القديمة التي تستهويني، والتي مازالت تحمل بين ثناياها أجمل الأصوات”.
ودعا كاظم أمانة العاصمة إلى تطوير هذا السوق الأثري الذي بعثرته فوضى الأشياء المعروضة حيث دخلت بعض السلع الطارئة على خصوصية هذا السوق، وحذر من اندثار أسواق بغداد التي تعدّ من أبهى ملامحها، ومازالت تدور ذكراها في مخيلة العديد من الناس بداخل العراق وخارجه.
سوق الهرج في بغداد يفقد ملامحه!!
12.05.2016