عرف الإنسان الآلات الموسيقية منذ العصور القديمة، ولعله بدأ مع أصوات الرياح ليبتكر آلات هوائية من أصداف المحار وقرون الحيوانات فيقلد بها أصوات الطبيعة، ويتطوّر به الأمر إلى صنع المزمار لتوظيفه في الغناء، وتتنوع بعد ذلك الآلات الهوائية فيصاحبها الإيقاع لتعبّر عن المشاعر الإنسانية في حزنها وفرحها، بل استعمل رجال الدين هذه الآلات ليعبُروا من خلالها إلى ساعات الصفاء الروحي، ورغم ظهور اتجاهات موسيقية مختلفة بدأت تجتاح العالم منذ أواخر القرن الماضي، فقد بقيت الشعوب على اختلافها محافظة على موسيقاتها في مواجهة عولمة الذائقة الفنية الناشئة.
كتب لطيف جابالله ..تونس- الزكرة آلة موسيقية هوائية تضفي البهجة على كل بيت شعبي في تونس تدخله، فإذا سمع صوتها يرنّ مع إيقاع الطبل، فذلك يعني أن هناك حفلة عرس أو ختان، وأحيانا حفلة نجاح دراسي، فهي آلة لا تعرف إلا الفرح رغم ما يمكن أن تؤديه من ألحان حزينة.
ورغم ما عانته هذه الآلة من النظرة الدونية وخطر انقراضها مع اختفاء عازفيها المهرة منهم إسماعيل الحطاب الذي رفع صوتها في الإذاعة التونسية زمن حكم الرئيس الحبيب بورقيبة في البرنامج الأسبوعي “قافلة تسير” والمهرجانات في زمن حكم زين العابدين بن علي، وحتى في محافل ومهرجانات دولية، فإن بعض المولعين الشباب بهذه الآلة الهوائية وإتقانهم العزف عليها وتوسيع مجالاتها جعلها تستردّ الروح وتعود بقوة، حتى احترفتها موسيقية وهي فتاة تونسية تدعى سمر بن عمارة فكانت أول عازفة زكرة في الوطن العربي.
وبقطع النظر عن أصلها ومصدرها وتاريخها، وقد يثير ذلك جدلا بين الباحثين في تاريخ الموسيقى، من المؤكد أن هذه الآلة قد دخلت البلاد التونسية منذ القديم واتخذت اسم الزكرة، في حين سميت في مناطق أخرى بالزرنة أو الغيطة.
والزكرة، آلة حمراء اللون شكلها مخروطي مصنوعة من خشب الزيتون أو التوت، ومنهم من يصنعها من أشجار أخرى كالمشمش والخوخ، وفيها جزء خشبي رئيسي متمثل في أنبوب تتسع فتحته السفلى أكثر من الفتحة العلوية يسمى “القالب”، وتسمى الفتحة الكبرى بالبوق لأنه يضخم الأصوات، فكلما كبر البوق، ازدادت قوة الصوت الصادر عن الزكرة، لذلك يتمثل الاختلاف الجوهري بين آلات الزكرة في حجم البوق.
وفي قالب الزكرة نجد ثقوب فوقية وسفلية تختلف باختلاف وظيفتها ومكان حفرها فهناك ثقوب تستعمل للعزف بوضع الأصابع فوقها وتكون سبعة ثقوب متتالية على طول القالب.
وتصدر من ثقوب الزكرة تسعة أصوات مرتبة من الغليظ إلى الحاد، ويعطي الثقب الخلفي الصوت الأغلظ والأقوى من الثقب العلوي في الزكرة، وهذه الدرجات تسمى “المنازل”، ولا تخضع الزكرة للنوتة الموسيقية لذلك لا يتم تدريسها في المعاهد الموسيقية بل يتعلمها المغرمون بها عمّن يتقنها من كبار العازفين، ويسمّون المعلمين.
والزكرة أنواع متعددة، وفي تركيا هناك طقم كامل فلكل درجة زكرتها، لكن يُستعمل منها في تونس نوعان فقط، “زكرة نصف” و“زكرة ربع”، والأولى تمتاز بالطول وتستعمل في الليل يصاحبها مغن وتحتاج الى مضخمات صوت، أما الزكرة الربع فهي أقصر وتستعمل للعزف في الشارع والمساحات الواسعة وتمتاز بطاقتها العالية لذلك لا تحتاج إلى تجهيزات صوتية وهناك زكرة طويلة جدا تستعمل في جزر جربة وقرقنة لكن يقال أنها لم تعد موجودة اليوم.
ومن الجيل الجديد الذي برع في تعلم العزف على هذه الآلة، نجد الفنان لسعد العرف من تطاوين في الجنوب وجهاد الغزواني من محافظة زغوان، وتنفرد العازفة سمر بن عمارة بمشروعها المويسقي، محاولة في بحوثها أن تخضع هذه الآلة إلى النوتة الموسيقية، وأملها في ذلك أن تعيد مجد هذه الآلة بإدخالها إلى قاعات التدريس في المعاهد الموسيقية.
يقول لسعد العرف، إنه تعلم العزف على هذه الآلة التي أحبها منذ صغره عن والده الذي كان معروفا بإتقانه العزف على الزكرة في جنوب البلاد التونسية، ومع عشقه لها ودراسته لآلة الناي وأصول الموسيقى، تمكن من تسجيل حضوره في التخت الشرقي، فعزف أغاني أم كلثوم وعزيزة جلال وغيرهما من نجوم الزمن الجميل.
يقول لسعد إن “طريقة عزف الزكرة تختلف بين العازفين، فعزف الأغاني الفلكلورية التونسية لا يتطلب مجهودا كبيرا لأن العازف لا يحتاج إلى الالتزام بالدرجات والمقامات الموسيقية، بينما يحتاج عزف الأغاني الشرقية إلى مجهود جبار في ضبط النوتة الصحيحة والعوارض، خاصة وأن آلة الزكرة لا تحتوي على أرباع الأصوات كما في الناي والكلارينات، ولكني بمجهودي الشخصي في النفخ والعزف أحاول أن أخرج الأرباع لأتمكن من عزف ‘مستنياك’ لعزيزة جلال و’أروح لمين’ لأم كلثوم وغيرهما من الأغاني الخالدة”.
جهاد الزغواني اسم لامع في العزف على آلة الزكرة، بدأ حياته الفنية بالعزف على المجوز، لكنه اكتشف أن المجالات الصوتية في الزكرة أكثر وأرحب، ما دفعه إلى شراء زكرة، وانطلق في التدرب عليها مسترقا السمع إلى إسماعيل الحطاب، الفنان الذي اقترنت باسمه الزكرة في الفن الشعبي. وجهاد اليوم يتقن عزف الأغاني الشعبية والشرقية على حد سواء حتى لقبه البعض بملك الزكرة لأنه يتقن عزف الأغاني الشعبية والشرقية بزكرة واحدة، ويستطيع عزف مختلف الطبوع والألحان.
تقول سمر بن عمارة الفنانة الشابة إنها دخلت إلى عالم الزكرة من باب التحدي تماما كما دخلت عالم الناي، وهما آلتان عرفتا أنهما من اختصاص الرجال، فهي التي حرمت في صغرها من الحصول على بيانو نظرا لضيق الحالة المادية لعائلتها التي لم تتمكن من توفير بيانو لها آنذاك ما جعلها تثبت لنفسها أن الموسيقى ليست آلة ولا إمكانيات، ولكنها عشق وتدريب شاق، فأتقنت العزف على الأورغ والقيتارة والناي ثم دخلت مغامرة العزف على الزكرة التي تطلبت منها جهدا كبيرا، لتتقن معها العزف على آلات نفخية أخرى كـ”الدودوق”. تضيف سمر “الزكرة آلة عنيدة تتطلب الكثير من الجهد التنفسي والموهبة، لذلك كانت على مر السنين اختصاصا رجاليا في الأساس، بل هناك من أمضى سنوات عديدة في التعلم والتدرّب دون أن يتقنها”.
ورغم استغراب البعض ممن يحضرون لعروضها الفنية، مضت سمر في تطوير نفسها مدفوعة بتشجيع بعض الفنانين والعازفين من شيوخ الزكرة، ودخلت غمار البحث في تاريخ هذه الآلة ودراسة إمكانية تطوريها وتنويتها (جعلها خاضعة للنوتة الموسيقية)، وهي اليوم تعدّ دراسة جامعية في هذا المجال.
وتتابع سمر أن بحوثها الأكاديمية، ستساعدها حتما في فهم هذه الآلة الأنثى في جمال صوتها وذلك من خلال الاطلاع على موسيقات أخرى من إيران وتركيا وأوروبا الشرقية، إضافة إلى الموروث الشعبي بغرض تطوير طريقة عزفها، وهي الآلة العنود التي لا تطيع إلا من يحبها، ثم إنها آلة لم تأخذ حظها من البحث والتطوير، ولعل الوقت أصبح مناسبا لإنصاف الآلة التي تعود إلى الساحة الفنية بقوة”.
وتضيف “أن الزكرة مثل كل الآلات الهوائية المعروفة في تونس تعتمد على سبع درجات إلا أن الطبقة الموسيقية تتغير بمجرد أن تتجاوز درجة الحرارة 37 درجة، لذلك يحتار العازف في تعديلها”.
والزكرة آلة يعود أصلها إلى عائلة آلة “الزمر” الفرعونية التي ظهرت قبل أكثر من ألفي عام قبل الميلاد والتي تطورت في ما بعد إلى ما يسمى بالزرنة التي ظهرت بفلسطين مع بداية القرن الثاني للميلاد.
ويرى بعض الباحثين أنه انطلاقا من هذه الفترة بدأ انتشار الآلة طيلة مراحل زمنية مختلفة وصلت خلالها هذه الآلة إلى أماكن عدة من أفريقيا وآسيا فتطورت وأخذت خصوصية لها في كل منطقة حلت بها.
وهناك من ينسب أصلها إلى الفارسية انطلاقا من العودة إلى أصل تسمية “الزرنة”، معتقدين أنها اشتقاق من الكلمة الفارسية (سرناي) بمعنى المزمار أو سورناي المركبة من كلمة (سور) وتعني ولائم أو أفراح و(ناي) لتصبح الكلمة ناي الولائم.
وهناك من يرى أن الزكرة دخلت إلى التراب التونسي مع الأتراك عبر مصر فليبيا لتمر إلى الجزائر والمغرب، بل منهم من يقول إن آلة الزكرة تركية الأصل، في حين يرى البعض الآخر أنها موجودة منذ الزمن القديم عند الأمازيغ، فأثثوا بها أفراحهم ومسراتهم قبل الغزو العثماني، ويعتقد آخرون أنها وفدت إلى البلاد العربية من أفريقيا لذا استقرت في البوادي والقرى.
ويرجع تاريخ تواجدها في تونس إلى حدود القرن 18 (كما يوثقها متحف الآلات الموسيقية بدار البارون ديرلونجي – النجمة الزهراء). ولا يقتصر استعمال الزكرة على الأفراح ومسرات العائلات فقط، وإنما تسجل حضورها أيضا في بعض الاحتفالات الصوفية فنجدها في لقاءات الحضرة الخاصة بالنساء وتجمعات الرجال في بعض الطرق الصوفية أو في الاحتفالات بالزوايا والأولياء الصالحين.
الزكرة تحمل الفرحة إلى كل بيت تدخله في تونس!!
27.04.2016