لقد ولّى زمن الأعراس التقليدية في العالم العربي، لا سيما في الحواضر والتجمّعات القرويّة الكبرى، وحتّى في الأرياف والبوادي لم تعد للعرس تلك الهالة الاحتفاليّة القديمة وطقوسه وعاداته هي في اندثار مستمرّ، والعائلات التي مازالت تحافظ على عاداته، أصبحت في تناقص وصارت تُعدّ على أصابع اليد الواحدة في كلّ قرية ومدينة.
د. محمد الجويلي ..كان العرس التقليدي في الجنوب التونسي متميزا، ففي يوم الكسوة يوضع لباس العروس فوق الحصان يزيّن به ويتجمهر وراءه أطفال ورجال ونساء يتبعونه حتى يصلوا إلى بيت والديها وكان هناك من يستعمل الجمل عوض الحصان للقيام بنفس المهمة، وهذا الاختلاف إنّما يعود إلى أسباب إتنولوجيّة وثقافيّة تتمثّل في الطرق التي يقع بها تمثّل الحيوانين في مخيال القبائل المختلفة أو حتّى العشائر والأفخاذ التي تنتمي إلى القبيلة نفسها والصور النمطيّة التي تنطبع في أذهان هذه الجماعات عنهما واختلاف الوظائف الموكلة إليهما في الاحتفاليات الجماعيّة.
وفي يوم الكسوة يسير المحتفلون على الأقدام وراء الجمل أو الحصان مستمتعين بهما وهما مكسوان بكسوة العروس والنسوة يغنّين ويزغردن، ويؤجّج حماسهنّ طلقات البارود التي تُدوى في الهواء من بنادق صيد لشباب يكونون في العادة من أشقّاء العريس ومن أبناء أشقائه وشقيقاته أو من أبناء عمومته وعادة ما تكون المسافة التي تُقطع سيرا على الأقدام في هذا اليوم قصيرة لا تتعدى في أحسن الحالات ميلين.
وقلما كان العروسان ينتميان إلى قومين مختلفين، فإن لم يكونا من أبناء العمومة، كما جرت العادة، فهما يتصلان بصلة القرابة والانتماء إلى نفس العشيرة. وإذا حدث أنْ فصلت مسافة طويلة بين منزل والد العروس ومنزل والد العريس، يقع الالتجاء إلى العربات التي تجرّها الخيول والبغال لحمل الأطفال والنساء وبعض العجائز اللّواتي يصررن وقد بلغ بهنّ العمر عتيّا على أن يواصلن الاحتفال بالحياة ويرفضن البقاء قابعات في البيوت على هامش العرس.
في حين يسير الشباب والرجال سيرا على الأقدام على يمين العربات ويسارها يتقدّم الجميع الحصان أو الجمل الذي يحمل كسوة العروس يمتطيه طفل عادة يكون من الأقرباء المقرّبين للعريس يومئ بقطعة من القماش حمراء اللون إشهارا للعرس وإيذانا- لرمزية الأحمر وإحالته على الدم- أنّ طقسا آخر وهو الأهمّ من كلّ طقوس العرس قد بدأ في تدشينه للتوّ وهو في خطواته الأولى قبل أن يكتمل في ليلة البناء بزّف العروس إلى عريسها في عشّ واحد، عشّ الولادة والنماء وإنجاب الذرّية الصالحة في قادم الفصول والأعوام. وقد يتناوب طفلان أو أكثر على هذه المهمّة، لا سيما وأنّ الأطفال المرشّحين لهذه المهمّة من أقرباء العريس، أشقّاؤه وشقيقاته كثيرون وإقصاء واحد منهم من شأنه أن يثير غضب والده أو والدته والسعيد هو الطفل الذي يحظى بهذا الشرف.
أمّا في يوم الجحفة ثالث أو ثاني يوم من العرس حسب عرف وعادة كلّ قبيلة أي يوم تُزفّ العروس لبيت زوجها في هودج يُوضع دائما فوق ذروة الجمل وعادة يُصنع من أغصان الزيتون اليابسة ومن جريد النخل يُزيّن بستائر بيضاء وحمراء لحجب العروس عن الأنظار، فإنّ أهمّ عادة تلفت الانتباه تتمثّل في إخراج العروس يدها اليمنى المخضّبة بالحنّاء من فتحة في الهودج بمجرّد وصولها والركب المرافق لها وتنثر عند حلولها ببيت زوجها الشعير والماء يمنة ويسرة على الأرض وعلى الحاضرين.
وذلك رمز من رموز الخصوبة والنماء والتعبير عن الأمل في أن يكون حلولها ببيت زوجها طالع خير وبركة عليه وعلى أهله وعشيرته وهو طقس من طقوس الاستسقاء والاستمطار وطلبا للاكتفاء واستدعاء للصابة وموجود في كلّ الثقافات وقد أشار إليه أرنست جونز في كتابه “التحليل النفسي والفولكلور” إذ كان شاهدا على مثل هذه العادة في إنكلترا أيام شبابه كما يقول، حيث يُنثر الأرزّ في الأعراس تعبيرا عمّا يتمنّاه المحتفلون للعروسين من خصوبة وخير.
لقد كان العرس متنفسا للمرأة التقليدية تمارس فيه أنشطة إبداعية وجمالية راقية ذات وظائف علاجية أحيانا وتطهيرية -بالمعنى البسيكولوجي للكلمتين- وفي الحقيقة ثمة أشكال وأجناس متعددة من أغاني الأعراس النسوية تغنى في الليل أو في النهار أو عند طهي الطعام أو خياطة بيت الشعر يوم نصبه وهو خيمة العروسين. ويمكن استحضار بعض الكلمات التي تغنى يوم الجحفة حين توضع اللمسات الأخيرة للعروس مكسوة باللباس والحلي التقليدية المخصصة لها في هذه المناسبة وإعدادها لتوديع منزل والديها بعد قليل إلى الأبد والتحاقها ببيت زوجها.
خلال هذه الفترة التي تستمرّ حوالي الساعتين قبل أن تخرج العروس لتتجلّى أمام الحاضرين وذلك بوضع كفّيها على وجهها لحجبه ثمّ فتحهما ليظهر للمحتفلين مكرّرة ذلك سبع مرات متتالية والنسوة يزغردن، تبدأ النسوة في الإحاطة بالعروس من كلّ جانب ويستهللن عملهنّ بتضفير شعرها المنسدل فوق أكتافها، كل واحدة منهنّ تمسك بخصلة منه وتعمل فيها يديها لتحوّلها إلى ضفائر مزينة بخرز ملونة وهنّ يغنّين “ما تبكيش يا ريم الصحاري…” وبمجرّد أن يتلفظن بفعل البكاء حتى تنهمر عينا العروس دمعا حارا وبكاء هادئا جميلا يستمرّ إلى لحظة الانكشاف والتجلّي. فالأغنية تستهلّ بالنهي عن البكاء وما هو في الحقيقة بنهي عنه وإنما هو دعوة له، استهلالا عجيبا يدعو إلى الفعل بالنهي عنه فيستشرف الضدّ بضدّه والشيء بعدمه.
وهدف هذه الاستراتيجية هو إفراغ العروس من شحنة الحزن الدفين الذي يعصرها وهي تشعر بأنّ لحظة فراق بيت والديها الأبدية قد حانت ولا مفرّ منها. الأغنية تطهيرية علاجية دون شكّ، تطهير العروس من حزنها ولوعتها بماء مقلتيها تطهيرا ذاتيا بمؤثرات خارجية جمالية حتّى إذا ما انتقلت بعد برهة إلى منزلها الجديد والتقت بأهل زوجها ثم بعيد ذلك به تكون في أبهى حلّة ومنظر، سعيدة بدخولها إلى عشّ الزوجيّة. العرس البدوي التقليدي منجم ثريّ لدراسة طقوس العبور ورموز الحبّ والنماء!!
العرس البدوي التقليدي منجم لدراسة طقوس العبور ورموز الحب والنماء !!
19.10.2015