اكتسب الطربوش في مصر منذ أوائل القرن الـ19 وحتى قيام ثورة يوليو عام 1952، دلالة قومية وتاريخية وثقافية باعتباره كان رمزا في مواجهة قبعة الأوروبيين خلال تلك الفترة، حيث كان اعتماره ملزما لكل الموظفين وكبار رجال الدولة والباشاوات وحتى الطلاب في المدارس، كما كان يمثل بالنسبة إلى الرجال هيبة وقيمة، لكن هذه المكانة تراجعت اليوم وأصبح الطربوش مهددا بالاندثار.
القاهرة - لابد للباحث عن الطربوش في القاهرة، سواء كان سائحا، أو هاويا، أو صاحب حاجة، من أن يقصد حي النحاسين بشارع المعز الذي يعتبر أشهر الشوارع الأثرية وأقدمها، وسط العاصمة المصرية، حيث ورش صناعة الطرابيش، وبعض المحال مترامية الأطراف في المنطقة، والتي ما زالت تعنى بتقديم هذا المنتج.
قرب الحي المذكور، تفوح رائحة تاريخ تنبعث من المكان، ممزوجة بغبار تركته أيام خلت على بضاعة معروضة تشتكي النسيان، سوى من ثلة قليلة تتجلى في شخصيات وطلاب أزهريين، أو سائحين جاؤوا لشرائها.
وكان الطربوش قديما رمزا للأفندية يرتديه أهل العلم والمعرفة، وبعد قيام ثورة يوليو 1952 انقرضت صناعته، ثم تم إحياؤها بعد الإقبال على التعليم الأزهري، ولكن بدأ تاج الوقار يندثر شيئا فشيئا.
يجلس الأربعيني إبراهيم رمضان، في ورشته على “ماكينة” الحياكة، ممسكا بورق مقوى إسطواني الشكل (بعد أن كان قد أخذ مقاس الطربوش)، ويضع الخامة على آلة كيّ، لتأخذ شكل الطربوش، ويبدأ أولى خطواته وهي التبطين، ومن ثم الصمغ، فالكبس، فالضبط، وصولا إلى إضافة الحلي والتغليف.
ويتم تبطين القالب الورقي، عبر تغليفه بقطعة من القماش الأحمر التي تم طلاء داخلها بمادة صمغية، ومن ثم يوضع على مكبس حديدي ساخن من أجل ضبطه وتجفيف تلك المادة، لتأتي المرحلة الأخيرة (الحلي)، وهي وضع الزر الذي يتكون من خيوط سوداء، ويتم تثبيته عن طريق إبرة تخترق أعلى منتصف الطربوش، وعقدها من الداخل، قبل كيّه، ليصبح فيما بعد جاهزا.
والطربوش كلمة من أصل فارسي “سر پوش”، وهي كلمة مكونة من مقطعين هما سر أي رأس، وپوش أي غطاء، فتصير غطاء الرأس.
ويختلف شكله وتصميمه وحجمه من بلد إلى آخر، ففي المغرب يكون قصيرا نوعا ما، وفي بلاد الشام – سوريا ولبنان وفلسطين والأردن- كان طويلا بشكل واضح وأشد احمرارا من تركيا ومصر التي كان يتميز الطربوش فيها بحجم معقول وشرابة طولها مناسب لهذا الحجم، وتتراوح مقاسات قالب الطربوش بين 25 و75 سنتيمترا على حسب مقاس حجم الرأس.
وهناك نوعان من الطرابيش، طربوش أفندي وهو ما كان معروفا قبل ثورة يوليو 1952 وطربوش العمامة وهو ما يرتديه المشايخ وطلاب الأزهر اﻵن.
ويقول رمضان “صناعة الطربوش مهنة تعلمتها من أجدادي وأعمامي، وورثتها عنهم”، مشيرا إلى أن رواده هم من السياح والمصريين المعجبين، إلى جانب الأطفال الذين يرتدونه كنوع من التسلية.
وربط الحرفي بين زيادة بيع الطرابيش، وحركة السياحة، لافتا إلى أنه كلما تراجعت السياحة، تأثرت نسبة مبيعاته.
ويقول ناجح عطا صانع الطربوش في الصعيد “الطربوش حاليا هو رمز للأزهر، بالإضافة إلى كونه تراثا مصريا أصيلا، فالطربوش الآن في الألفية الثالثة يعني الرجوع إلى عبق التاريخ واستنشاق نسيم الماضي الذي كان رمزا للاحترام والوقار، فلم يكن بمقدور أي موظف الدخول إلى مكتب مرؤوسه عاري الرأس، فقد كان يعد ذلك من المحرمات إلى أن أتت ثورة 1952 فمنعه جمال عبدالناصر من الإدارة، كما أن الطربوش تراث يجب الحفاظ عليه بالرغم من كونه اختراعا تركيا، إلا أنه أرتبط كثيرا بالموظف المصري، فكيف لا يبقى لتتعرف عليه الأجيال القادمة.
واختلفت الروايات حول بداية ظهور الطربوش في مصر، حيث يقال إن بداية صناعته تعود إلى نحو 400 سنة، وأن أول ظهور له كان في اليونان، وألبانيا، ثم انتقل إلى العرب خلال الحقبة العثمانية، فأصدر السلطان سليمان القانوني عدة فرمانات في غرب المنطقة ومشارقها، بتعميمه كزي بروتوكولي. وعرفت مصر، صناعة الطربوش، في عهد الوالي محمد علي باشا (حكم من 1805 إلى 1848)، وكان ارتداؤه عادة عثمانية، ثم أصبح مكونا أساسيا من زي موظفي الحكومة، ويعاقب من لا يلتزم به.
وظل الطربوش مظهرا مهما للوقار والمكانة الاجتماعية فى مصر، حتى قيام ثورة يوليو، حين قرر الرئيس الراحل جمال عبدالناصر (حكم من 1956 إلى 1970) إلغاء فكرة إلزامية ارتدائه، ليصبح المصريون أحرارا في اختيار ارتدائه باستثناء العمامة الأزهرية (طربوش أُضيفت إليه قماشة بيضاء) لطلاب ومشايخ الأزهر الشريف.
الطربوش المصري.. تاج الوقار يندثر !!
14.10.2015