من بين المدن الرئيسية في التاريخ العربي الإسلامي والتي لا يمكن المرور عليها مرور الكرام في دراسة هذا التاريخ وتفاصيله، هي مدينة القيروان بالوسط التونسي. فقد كانت المدينة ولا تزال من بين المرجعيات التاريخية لرصد تطور حركة الإسلام وانتشاره في العالم الإسلامي اليوم. كيف لا وقد مثلت المدينة نقطة إشعاع حضاري وتاريخي لكل العرب، ومنبعا للاجتهاد الديني وللفلسفة والعلوم والفنون والمنطق. وبفتح كتاب القيروان، لا يمكن إلا أن نقف عند تفاصيل منطقة “رقادة” التي تخبرنا عن تاريخ تليد واستثنائي.
القيروان (تونس) - رقادة، مدينة أغلبية تقع وسط البلاد التونسية وعلى مسافة 10 كيلومترات جنوب غرب مدينة القيروان. أسسها الأمير الأغلبي إبراهيم بن أحمد سنة 264هـ/870م في ضواحي العاصمة الأغلبية، لتصبح مقر الإمارة بعد مدينة العباسية أو القصر القديم.
ولا يمكن المرور على مدينة رقادة دون الانتباه إلى متحفها الوطني للفنون الذي يحوي قطعا نادرة من التاريخ الإسلامي، إذ يحتوي على نسخة من أندر وأثمن نسخ القرآن الكريم في العالم.
فالمصحف الأزرق هو نسخة من القرآن الكريم مكتوب بالخط الكوفي المذهب على الورق الأزرق النادر. ويعود المصحف إلى القرن الرابع للهجرة، وتثبت سجلات الجامع الأعظم بالقيروان أن وجوده بمكتبته يعود إلى القرن الخامس. وخلال القرن التاسع عشر للميلاد تم نهب المكتبة وسرقت عدة صفحات منه نجدها اليوم في مجموعات خاصة وفي بعض متاحف أوروبا، ولكن أغلب صفحات المصحف محفوظة في متحف رقادة إلى الآن.
وتروي بعض المصادر من الأهالي وكبار الشيوخ والقائمين على الجامع الأعظم عقبة ابن نافع، أن الأمير أصيب بأرق شديد وشرد عنه النوم فنصحه الأطباء بالخروج والمشي طويلا، فلما وصل إلى موقع المدينة الذي كان سهلا منبسطا وقليل الهضاب، غالبه النعاس فنام. وسميت بذلك رقادة وأمر ببناء قصر بها.
وبعد انتقال الأمير إلى قصر الفتح سنة 270هـ/876م، بدأت تظهر معالم هذه المدينة فشيّدت بها القصور والأسواق والحمامات وجامع كبير. ويذكر علي بن أسلم البكري، تلميذ الإمام سحنون، أن قطر المدينة بلغ ما يقارب 10 كيلومترات.
وبعد هروب آخر الأمراء الأغالبة سنة 296هـ/909م أقام بها عبيد الله المهدي حتى سنة 308هـ/921م تاريخ انتقال العاصمة إلى المهدية، ففقدت المدينة منزلتها تدريجيا حتى خرّبت تماما أيام الخليفة المعز لدين الله الفاطمي، ولم يبق منها غير بساتينها وحدائقها.
أما اليوم فلم تبق من رقادة سوى آثار متفاوتة الحفظ، تمّ إدماجها بمنتزه يمسح حوالي 20 هكتارا، شيّد فيه في الستينات من القرن الماضي قصر رئاسيّ للحبيب بورقيبة، تم تحويله فيما بعد إلى متحف ومركز للبحوث المختصّة في الحضارة الإسلامية بتونس. وقد خصصت قاعة المدخل في هذا المنتزه إلى الجامع الكبير بالقيروان، حيث يعرض نموذج خشبيّ أنجز بمقياس دقيق مع مقطع على مستوى المئذنة، والصحن المحوري يتيح للزائر اكتشاف مختلف الخصائص المعمارية، وقبالة هذا النموذج توجد نسخة مصغّرة من محراب هذا الجامع أيضا.
إلى جانب هذه القاعة، قاعة أخرى للخزف تعرض فيها مجموعة هامّة من الأواني الفخّارية تعود إلى العهود الأغلبيّة في القرن التاسع والفاطميّة القرن العاشر للميلاد والمتأتّية أساسا من موقعي رقادة و“صبرة” (قرب القيروان).
ثمّ تأتي قاعة النقود وفيها مجموعة هامّة من النقود التي تصوّر تاريخ أفريقيّة الاقتصادي على مدى أكثر من ستة قرون. أمّا القاعة الرئيسية من المتحف فهي المسمّاة بقاعة القبة والتي تجلب انتباه الزائرين بدقة، زخارفها وتنميق زجاجياتها وإشرافها على المنتزه.
وفي هذه القاعة تعرض قطع ثمينة من البلور والرصاص والبرنز. وتحتوي أخيرا قاعة المصاحف القرآنية الموالية لقاعة القبة على صحف من القرآن الكريم تتميّز باختلاف أشكالها وأناقة خطوطها وتنوّع أساليبها وثراء منمنماتها، وهو ما يجعل من هذه المجموعة، كنزا لا يقدّر بثمن.
القيروان : رقادة المدينة التي نام فيها الأمير فأصبحت مزارا يحوي تراثا فريدا !!
08.08.2015