يشعر المبدعون بألم مضاعف حين ترغمهم الحروب والظروف السياسية على الهجرات القسرية، التي لا تنال من ذواتهم الطبيعية فحسب، جراء انتزاعهم من أحضان الوطن، بل تنال أيضا من ذواتهم الاعتبارية، كأصحاب فنون وإبداعات ترتبط ارتباطا عضويا بذاكرة المكان، وبتراثهم الفكري والحضاري.
أحمد فهيم ..بلهجة دمشقية لا تخلو من الحسرة والحزن يروي السوري محمد الجدب (أبوربيع)، قصة تهجيره القسري لفن الزخارف الدمشقية وتطعيم الصدف، في معمل أنشأه، مع مواطنه أسامة النمر، بإحدى ضواحي العاصمة الأردنية، عمان، ليبدعا فيه التراث المستوحى من الحضارة السورية القديمة والحضارتين العثمانية والفارسية، ضمن مشهد يتحدى رائحة البارود والدمار الذي لحق بـ”شام شريف”، وكأن لسان حالهما يقول ما قاله الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش في قصيدة جدارية: هزمتك يا موت الفنون جميعها.
يقول أبوربيع إن معمله المحاذي لبوابات الجامع الأموي في دمشق، والذي جرى تصنيفه قبل الثورة السورية ضمن المسارات السياحية التي تؤمها الأفواج من كافة البقاع، لم تغب صورته عن ذهنه، منذ اليوم الأول الذي غادر فيه وطنه، بسبب الحرب الدائرة هناك، منذ نحو أربعة أعوام. فهو لا يفتقد في عمله أخشاب الجوز البلدي، التي تمتاز بها غوطة دمشق فحسب، بل يفتقد أيضا ماء الوطن وهواءه، ورائحة المكان والأشياء التي كان يستوحي منها فنه، ويبدع على إيقاعها الحركي أعظم زخارفه وقطعه النادرة، كما يقول.
ومن يتجول في معمل أبوربيع، وزميله أسامة النمر، يجد العديد من الجداريات والمناضد والأرائك والقطع المزخرفة بالدهان والصدف البحري الطبيعي، ضمن مزيج لوني أخّاذ، فيشعر الزائر للمعمل كأنه يقلب ناظريه في باحة أحد البيوت الدمشقية القديمة، التي تسلب الألباب بأصالتها وروعة إبداعها، إذ استغرق إنجاز بعض قطع الأثاث شهرا كاملا، من العمل اليدوي، دون كلل أو ملل، حتى كادت تنطق من شدة الزخم والعناية المبذولة في أدق تفاصيلها.
وهنا يعلق أبوربيع بالقول “إن الأزمة التي تشهدها بلاده، تحول بينه وبين توفير العديد من المواد الأساسية اللازمة في حرفته، باستثناء النزر اليسير من المواد التي يجري شحنها من سوريا بين الفينة والأخرى”.
ويضيف أن “الإقبال في الأردن على شراء منتجاته ما زال محدودا”، بسبب عدم قدرته على تسويقها، وغلاء سعرها، رغم أنه يبيع بعضها بأقل من سعر البيع في سوريا ما قبل الثورة، حيث يصل سعر بعض الجداريات وزخارف الأسقف نحو أربعة آلاف دولار أميركي، حسب أبوربيع.
واستدرك المبدع السوري، في الآن ذاته، “أن الأردنيين يتذوقون فنّه بعناية، ويقدّرون قيمته المعنوية، وحجم الجهد المبذول في إنتاجه، ويستشعرون تاريخ هذه الزخارف السورية التي يبلغ عمرها نحو 500 عام، وذلك بسبب الجوار والثقافة المشتركة بين البلدين، لا سيما في مدينة مأدبا (30 كيلومتر جنوبي العاصمة عمان)، والتي تمتاز بجداريات الفسيفساء في مواقعها الأثرية”.
أما أسامة النمر فيقول عن تأصيله لفن تطعيم الصدف الدمشقي الذي يبدعه، إن هذا الفن ازدهر في عهد الدولة العثمانية، حين انتقل الحرفيون للعمل في إسطنبول، وهو لا يلقى إقبالا كبيرا في سوريا على المستوى الشعبي، بسبب غلاء سعره، في حين أن العديد من الفنادق الكبرى والمطاعم السورية تقبل على شراء قطعه بكثرة لجذب السياح، إضافة إلى إقبال الخليجيين عليه بشكل لافت.
وحسب إحصائيات حديثة، يوجد في الأردن نحو المليون ونصف المليون سوري، منهم 750 ألفا دخلوا قبل بدء الثورة بحكم النسب والمصاهرة والمتاجرة، والبقية جرى تسجيلهم بصفة لاجئ.
ويقطن مخيمات اللاجئين السوريين وعددها خمسة أكبرها مخيم الزعتري، ما يزيد على 100 ألف، فيما يتوزع باقي السوريين على مدن الأردن وقراها.
ويزيد طول الحدود الأردنية مع جارتها الشمالية عن 375 كيلومترا يتخللها العشرات من المنافذ غير الشرعية، التي كانت ولا زالت معابر للاجئين السوريين.
الزخارف الدمشقية فن هجر الشام وعاد للحياة في الأردن !!
06.07.2015