لئن اعتاد اليمنيون، خلال الأشهر الأخيرة، على نقص إمدادات الكهرباء والماء ومعظم المواد الاستهلاكية المهمّة كالحليب واللحم بسبب ضراوة الحرب وتأثيرها السلبي المتزايد على الإنتاج ومسالك التوزيع، فإنّ جولة في سوق القات بصنعاء تظهر انتظام إمدادات هذا النبات “المخدّر” ذي الأوراق الخضراء.
صنعاء - على الرغم من أن اليمن يعاني من حرب ضروس أضرّت باقتصاده وتسبّبت في عدم توفّر كثير من ضرورات الحياة للناس فإن القات هو الشيء الوحيد الذي لم يتأثر بظروف الحرب وما زال متوفّرا بكثرة.
ويعشق اليمنيون نبات القات، وهو عبارة عن نبتة أوراقها خضراء يتم تناولها بمضغها دون بلعها، أو ما يطلق عليه “التخزين”، ويتجمّع الأهل والأصدقاء في جلسات تخزين القات التي تنطلق غالبا بعد صلاة الظهر وتستمر إلى ما قبيل المغرب، لكنّ بعضهم يستمرّ في عملية التخزين إلى غاية ساعات متأخرة من الليل.
ولا يعتبر مستهلكو القات أنّه مخدّر بل منشط ومنبّه خفيف، لذلك تشير دراسات حديثة أنّه يحظى برواج واسع جعل 80 بالمئة من الرجال على الأقل يخزّنونه، في حين تستهلكه 60 بالمئة من النساء في اليمن وعدد متزايد من الأطفال ممّن تقلّ أعمارهم عن عشرة أعوام. وهي أعلى نسب لاستهلاك القات تسجّل إلى حدّ الآن، في بلد دمّرت الحرب اقتصاده.
ويستيقظ مزارعو القات لقطف تلك الأوراق الخضراء، بينما يتحدّى تجاره القنابل والقذائف والمتفجّرات، لنقله وتوزيعه في الأسواق حتى يمضغه ملايين اليمنيين يوميا، ممّن يخرجون ما في جيوبهم الخاوية للحصول على كيس من تلك النبتة الناعمة الملمس. ويتراوح سعر الكيس بين دولارين اثنين و14 دولارا بناء على جودة القات نفسه.
ويعمل الكثير من أطفال اليمن، في الشوارع، ببيع زجاجات الماء على الطرقات لمستهلكي القات، ذلك أنّ عملية تخزين النبتة داخل الفم تحتاج لشرب كميات كبيرة من الماء طيلة ساعات التخزين، قد تصل إلى ثلاث أو أربع زجاجات ماء.
يذكر أنّه منذ عدة عقود خلت كان اليمنيون، في العاصمة صنعاء وفي الشطر الشمالي للبلاد عموما، يخزّنون القات يوم الجمعة فقط بعد الصلاة وحتى العشاء، لكنّ الحال تغيّر اليوم فبات التخزين سلوكا يوميا وعادة راسخة، انتقلت ممارستها إلى اليمنيين الجنوبيين بعد الوحدة عام 1990.
وبرّر متعاط للقات، يدعى عارف محمود، تزايد الإقبال على استهلاك هذه النبتة بقوله: إن الناس يحتاجونه للتكيّف مع الصعوبات التي يمرّ بها بلدهم.
وأضاف “بسبب انعدام الحاجات الأساسية كالبترول والغاز والديزل والحاجات الأساسية، فالإنسان يتجه إلى القات لينسى همومه. الإنسان يخزن كي ينسى الهموم، وينسى الوضع السائد حاليا للشعب اليمني”.
أحمد الرماح، بائع قات في العاصمة صنعاء، أكّد رأي محمود، قائلا: إن القات واحد من الأشياء القليلة التي يمكن لليمنيين الاعتماد عليها لينسوا همومهم. وأضاف “يعتبر القات الصديق الوحيد للشعب اليمني حاليا. ورغم الحصار لا يزال هو مسلينا”.
وفي ظلّ حملة عاصفة الحزم ضدّ المتمردين الحوثيين الموالين لإيران، زاد إقبال اليمنيين على تعاطي القات سعيا إلى التنفيس والاسترخاء والغرق في وهم نسيان واقعهم المرّ.
وقال بائع القات حميد علي إن سبب توفر إمدادات القات هو شجاعة تجاره، مضيفا أن “سبب وجود القات في ظل هذه الأزمة هو كفاح المقاوته لإيصاله إلى المستهلكين وعلى أي تاجر أن يوجد السلعة”.
ويقول البنك الدولي إن شخصا من كل 7 عاملين باليمن يعمل في إنتاج وتوزيع القات، مما يجعله أكبر مصدر للدخل في الريف وثاني أكبر مجال للتوظيف في البلاد، متفوّقا حتى على القطاع العام.
وقد أغلقت المصارف والبنوك أبوابها، خشية التعرّض للقصف وأعمال النهب، ممّا حرم السكان من السيولة المالية غير أنّ تجارة القات لا تزال تشهد رواجا كبيرا في وقت تحتدم فيه الحرب.
وقد باتت زراعة القات تشكّل المنتج الأكثر زراعة ومحصولا في اليمن، بعد أن حلّ محل زراعة البن وأنواع العنب والفواكه اليمنية الشهيرة، وأضحى المصدر الأساسي للدخل في معظم المحافظات غير النفطية، علما أنّ نبتة القات تحصد مرّتين في الشهر، ويسوّق المحصول بأسعار تتفوّق على أثمان الفاكهة والخضار وغيرها من المنتجات الزراعيّة، بما يفسّر إقبال المزارعين على إنتاجها بدلا ممّا ألفوا زراعته في الماضي.
يذكر أنّ اليمن يكاد يخلو من الوديان والأنهار، ومن ثمّة يعوّل بشكل أساسي على المياه الجوفية، حتى باتت منابعه مهدّدة بخطر الجفاف، لا سيما أنّ القات من النباتات السقوية المستهلكة لكميات كبرى من المياه، غير أنّ إغراء مكسبها السريع والمرتفع يدفع المزارعين اليمنيين إلى تفضيلها على غيرها من المنتجات.
وتصنف منظمة الصحة العالمية القات باعتباره “عقارا ضارّا من الممكن أن يتسبّب في حالة إدمان خفيفة إلى معتدلة”. ويمكن أن تشمل الأعراض المادية له الهلوسة والاكتئاب وتسوّس الأسنان. ورغم المخاطر المرتبطة بتعاطي القات، يقول محمد هاشم الشرفي، وهو يمني من مخزني القات النبتة الخضراء، إن تعاطيه يحول بين اليمنيين وإدمان مخدرات أشدّ خطرا.
وأضاف “يجب أن يكون القات متوفرا، وإلا لا أحد من اليمنيين يمكنه أن يعيش، دون أن يتحوّل إلى الخمر والمخدرات والحبوب والهروين”.
واستطرد معدّدا سلبيات هجر القات “سيرجعنا ذلك إلى مغازلة البنات في الشوارع بوقاحة.. ونعود إلى ممارسة العديد من الآفات، لكن هذا الجليس يحول دون ذلك خاصة أنك تختلط مع كبار العقال والعلماء، حسب ما ذهب إليه.
وفي ظل الحرب تتزايد صعوبة الحياة في اليمن، وتتصاعد الأزمة الاقتصادية الخانقة، غير أنّ ذلك لا يمسّ إطلاقا من الإقبال غير المسبوق على تناول القات استحضارا لما فات وولّى من أيام اليمن السعيد.
القات ملجأ اليمنيين زمن الحرب!!
03.07.2015