بعد أن كان سلاحا يحمله الشجعان في ساحات الحرب تحول السيف الدمشقي إلى تحفة فنية دأب الحرفيون على نقشها بدقة عالية، وبعد أن خفت بريقه في السنوات الماضية يحاول صناعه إحياءه من جديد للحفاظ عليه من الاندثار.دمشق ـ في ورشته الكائنة بمدينة جرمانا بريف دمشق الشرقي يجلس السوري غانم جبيل لساعات طويلة دون كلل أو ملل، ليصنع سيفا دمشقيا مذهبا بنصله المصنوع من الفولاذ المرن أو ما يعرف بـ”نصلة جوهر”، ليكون في النهاية تحفة فنية عالية الجودة تقدم كهدية أو تذكار لأحد مّا.ويسعى غانم إلى الإبقاء على صناعة السيف الدمشقي متألقة وحاضرة بين الصناعات اليدوية السورية التراثية المتوارثة عن الأجداد والآباء، بعد تعرضها لبعض الركود بسبب سنوات الحرب التي عاشتها البلاد.وتأثرت عدة قطاعات صناعية ومهن يدوية بتلك الحرب وما أفرزته من تبعات، حيث تعرضت بعض الورش اليدوية إلى التدمير، ونزح بعض الحرفيين إلى خارج سوريا.واعتبر الحرفي جبيل، الذي توارث المهنة عن أبيه وإخوته، أن سبب نجاح أيّ حرفي يعود إلى حبه للمهنة وتعلقه بها، مؤكدا أنه لا يمكن لأيّ شخص أن يبدع فيها إن لم يكن يحبها.
**ما يميز السيف الدمشقي هو الروح التي يتركها الصناع في تلك القطعة الفنية
وقال جبيل إن “أيّ شخص يريد أن يعمل في صناعة السيوف يجب أن يكون عاشقا لهذه المهنة اليدوية، وأن يخلص لها، بالإضافة إلى امتلاكه رؤية فنية وجمالية وصبرا وطول بال، حتى يتمكن من الإبداع فيها”.وتابع إن “مهنة صناعة السيف الدمشقي ما تزال حتى يومنا هذا مهنة يدوية بامتياز لم تدخل إليها الآلة أو المكننة”.
ووفقا لجبيل، فإن ما يميز السيف الدمشقي هو الروح التي يتركها الصناع في تلك القطعة الفنية، والزخارف التي يبدعها الحرفي على غمد السيف الخارجي من نقوش ورسومات فنية رائعة.ويحتاج السيف الواحد إلى ثلاثة أيام كي يصبح جاهزا بحسب جبيل الذي أشار إلى أن وضع الزخارف على غمد السيف يستغرق وقتا طويلا، ويحتاج إلى دقة وصبر عاليين.وأوضح أن ورشته هي واحدة من الورشة القليلة التي بقيت تصنع السيف الدمشقي بشكل يدوي، لافتا إلى أن الكثير منها تحول إلى المكننة.وأشار جبيل إلى أن مهنة صناعة السيف الدمشقي مثلها مثل باقي المهن التي تعرضت للصعوبات والتحديات خلال الحرب، ولعل العقوبات الغربية كانت من أهم التحديات التي واجهت المهنة.
**السيف الدمشقي يعود إلى حقبة الخلافة الأموية وعصر الفتوحات الإسلامية
وقال جبيل إن “السيف الدمشقي معروف ومشهور على مستوى المنطقة العربية، ويضاهي في صناعته باقي السيوف الأخرى، فهو الأجمل والأرخص سعرا بالنسبة إلى سعر الكلفة، إضافة إلى أنه يحمل صفات فنية عريقة”.وروى جبيل بالكثير من الاسهاب عن مراحل صناعة السيف الدمشقي والتي تمر أولا بهيكلة غمد السيف والمؤلف من قطعتين أو ثلاث، ثم مرحلة تعرضه للحرارة العالية كي يتمكن الصانع من تشكيل الغمد بشكل سهل.
وتأتي بعد ذلك مرحلة وضع الزخارف على الغمد بأشكال فنية مختلفة لتتعرض من جديد للحرارة ليتم تثبيت تلك الزخارف على الهيكل الخارجي، ثم يذهب بعد ذلك إلى “تلبيس” الغمد باللون الذهبي أو الفضي حسب رغبة الزبون.وفي بقية المراحل، يتم وضع القبضة وتجهيز النصل المصنوع من الفولاذ المسمى “نصلة جوهر”، وهي سر دمشقي لا يعرفه إلا أهل الشام، وبعدها يتم وضع الأحجار الملونة عليه ليصبح بعد ذلك سيفا جاهزا للبيع أو العرض.من جهته، قال الأستاذ الجامعي والباحث التاريخي الدكتور سليم بركات لشينخوا إن “ما يميز السيف الدمشقي هو استقامته، وهو يتميز بذلك عن باقي السيوف العربية بهذه الاستقامة”.وتابع إن “السيف الدمشقي يعود إلى حقبة الخلافة الأموية وعصر الفتوحات الإسلامية”، مؤكدا أن هذا السيف مصنوع من معادن خاصة جلبها الأمويون من خلال الفتوحات، لافتا إلى أن المعدن المصنوع منه السيف الدمشقي قد لا يكون من أرض عربية.وأشار الأستاذ الجامعي إلى أن رمزية السيف وأهميته جعلتاه رمزا للعاصمة دمشق من خلال وضعه في ساحة الأمويين بوسط العاصمة.وفي أحد المحلات التجارية في سوق الجابية القريبة من أسواق دمشق القديمة، المزدانة بالسيوف الدمشقية، قال محمد أبوعبدالله (38 عاما)، وهو شاب سوري مسافر إلى السعودية، “أحببت أن أشتري سيفا دمشقيا لشخص ما في السعودية كهدية وتذكار من دمشق”، مؤكدا أن السيف الدمشقي تحفة فنية رائعة، والكل يفتخر بتلك الصناعة اليدوية التي ما زالت حاضرة حتى الآن.وأشار محمد، وهو يحمل سيفا مذهبا داخل علبة من المخمل، إلى أن السيف الدمشقي هوية خاصة، وسر صناعته هو الذي أعطاه هذه المكانة العريقة.
السيف الدمشقي صناعة يدوية يعود لها بريقها بعد الحرب!!
31.05.2023