أحدث الأخبار
الأربعاء 11 كانون أول/ديسمبر 2024
1 2 3 41136
"حديقة أفريقيا".. مقبرة المهاجرين من ضحايا رحلات الموت في تونس!!
12.06.2021

جرجيس (تونس) - لم يمض وقت طويل على تدشين مقبرة في جنوب تونس مخصصة لضحايا “قوارب الموت” وقد امتلأ نصفها. في هذا المكان المزروع بالزهور ترقد جثامين مهاجرين لقوا حتفهم خلال محاولة عبور البحر نحو أوروبا، ويقول مؤسسه إن الهدف منه حفظ كرامة الضحايا المجهولين.
باب مدخل المقبرة قديم ومصمّم بأسلوب هندسي تونسي يعود للقرن السابع عشر ويؤدي إلى مسالك صغيرة أرضها مغطاة ببلاط سيراميك مزخرف باليد، تعلوها قبّة بيضاء وقاعة صلاة لمختلف الأديان.
أسس مشروع “حديقة أفريقيا” الفنان رشيد قريشي الذي يقول إن “المهاجرين المدفونين الذين قضوا في البحر واجهوا الصحراء والعصابات والإرهابيين، وأحيانا التعذيب ثم الغرق، وأردت أن أمنحهم جزءا من الجنة” بعد جحيم محاولات العبور على أمل تحسين حياتهم.
في نهاية عام 2018 اشترى قريشي (74 عاما) قطعة أرض في منطقة جرجيس القريبة من الحدود مع ليبيا، يحيط بها شجر الزيتون، وأسس فيها المشروع.
وتقع جرجيس على بعد 50 كيلومترا تقريبا من الحدود مع ليبيا. ومن الأراضي الليبية تبدأ الكثير من الرحلات عبر القوارب المتجهة نحو أوروبا. وتواجه “قوارب الموت” -كما يسميها محمد شمس الدين مرزوق- المشاكل في البحر بصورة مستمرة، وتتعرض للغرق أو الانقلاب. وعندما يحالف الحظ الركاب تنقذهم سفن الإنقاذ التي تشرف عليها المنظمات غير الحكومية أو القوات البحرية التابعة لإحدى الدول المطلة على شاطئ البحر المتوسط.
تصطف قرابة مئتي مدفن مرقّمة ومطلية باللون الأبيض ومحاطة بخمس شجرات زيتون ترمز لأركان الإسلام الخمسة و12 كرمة لصحابة المسيح. ويمكن قراءة بعض المعلومات على شواهد القبور من قبيل “امرأة بفستان أسود، شاطئ الحناشي”، و”رجل بثوب أسود، شاطئ فندق خمس نجوم”.
بلدية جرجيس أخذت على عاتقها دفن أكثر من ألف جثة لمهاجرين مجهولين منذ سنة 2000
وتضفي رائحة زهر الياسمين وروائح شجيرات أخرى سكونا على المكان الذي يستقبل أحيانا جثثا متعفنة.
ويتم انتشال هذه الجثث من البحر بعد حوادث غرق، أو تصل أحيانا الى الشواطئ في الجنوب التونسي بسبب التيارات البحرية. وغالبا ما تكون لأشخاص خاضوا المغامرة انطلاقا من ليبيا أو من تونس.
المهاجرة فيكي (23 عاما) قدمت من النيجر مشيا على الأقدام، وحاولت مرّات عدة الوصول إلى السواحل الإيطالية انطلاقا من ليبيا دون جدوى.
تتنقل فيكي بين مسالك المقبرة وفي عينيها نظرات يائسة، تقول “أحلم بالذهاب إلى أوروبا والتخصص في الموضة، ولكنني عشت جحيما. عندما أرى هذا لا أعود متأكدة من أنني سأحاول ركوب البحر مرة ثانية”.
ويتم تشييد مبنى في المقبرة ليضم لاحقا قاعة تشريح تسهّل عملية التعرّف على الجثث.
وتجرى التحاليل حاليا في مستشفى محافظة قابس الذي يبعد 140 كيلومترا، وتواجه السلطات المحلية صعوبات في نقل الجثث.
بالقرب من أحد القبور عائلة ليبية تصلّي على أحد أفرادها الذي تمّ التعرّف عليه مؤخرا بفضل أشخاص رافقوه خلال الرحلة المأساوية.
ويقول رشيد قريشي “اقترحنا عليهم نقل الرفات معهم، لكن الأب رفض قائلا: الله تخلّى عن ليبيا، اتركوه هنا”.
وصمّم الفنان الذي فقد شقيقه غرقا في البحر المكان “لمساعدة العائلات على بكاء موتاهم، ولكي تدرك ولو بمجرد صور (ترسل إليها) أن هناك مكانا للدفن بكرامة”.
ويتابع “هو أيضا مكان رمزي مثل قبر الجندي المجهول، لأن الكلّ مسؤول عن هذه المأساة”.
ويموّل رشيد المشروع بأكمله. وكان قد باع عددا من أعماله الفنية لجمع المال والشروع في إنجاز مشروعه بعد أن ظهرت العديد من العراقيل أثناء عملية دفن الجثث التي يتم انتشالها من البحر، في مدينة جرجيس التي يعيش فيها العديد من الصيادين.
ومنذ مطلع عام 2000 أخذت بلدية جرجيس على عاتقها دفن أكثر من ألف جثة لمهاجرين مجهولين جاءوا من آسيا وأفريقيا والمناطق القريبة، في قطعة أرض معزولة عن المدينة.
ولا ينسى أهالي جرجيس محمد شمس الدين مرزوق البالغ من العمر 55 سنة والذي انضم طوعا إلى الهيئة المحلية للهلال الأحمر التونسي وأخذ على عاتقه مهمة حمل جثث المهاجرين غير الشرعيين الذين لقوا حتفهم في البحر ودفنها بطريقة تليق بالكرامة الإنسانية في “مقبرة الغرباء”.
وتولى شمس الدين هذه المهمة منذ نهاية تسعينات القرن الماضي، حين كان يعمل صيادا، حيث وجد مع زملائه الكثير من الجثث أو بعض الأطراف البشرية في البحر.
ويكشف رئيس بلدية جرجيس مكي لعريض أن “العديد من الشباب في جرجيس هاجروا إلى أوروبا عبر البحر ومات بعضهم. حين نشاهد المهاجرين نرى فيهم أبناءنا”.
وقام عمّال البلدية بمساعدة متطوعين بدفن أكثر من 600 مهاجر مجهول الهوية في قطعة الأرض الرملية الواقعة قرب مكب للنفايات والتي خصصتها البلدية لدفنهم.وسط القبور هناك بعض الزهور على قبر نيجيرية تدعى روز ماري تمّ التعرّف عليها من قبل أقاربها.
ويؤكد رئيس البلدية “لو كانت لدينا الإمكانيات لما تركنا المقبرة على هذه الشاكلة”.
وامتلأت مقبرة البلدية إثر وصول مئة جثمان في يوليو 2019، وكان من الضروري حفر قبور في “حديقة أفريقيا” حتى قبل الشروع في بنائها.
ومنذ ذلك التاريخ بدأت تكتظ بالموتى كل أسبوع وخصوصا خلال فصل الصيف إثر تزايد محاولات العبور من تونس وليبيا.
وعلى أرض المقبرة أيضا مئتا قطعة من الآجر الأبيض تؤشر على مواقع جديدة لحفر القبور، لكن قريشي يخشى أن تحجز كلّها بنهاية الصيف.
ويقول “نسعى إلى شراء قطعة الأرض المتاخمة لتوسيع المقبرة”.

1