تبدو تونس أكثر من أيّ وقت مضى في مواجهة تهديدات ومخاطر المجموعات المتشددة، والتي استطاع الجيش محاربتها، أخيراً، في معركة بنقردان، مجنّباً البلاد هزّة أمنية تُضاف إلى سلسلة من الاعتداءات الدامية التي تعرضت لها البلاد، بما في ذلك الهجوم الذي استهدف حافلة الأمن الرئاسي في العاصمة التونسية في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي. كما أنّ الحديث عن التدخل العسكري الدولي في الجارة ليبيا، أقلق تونس، وبدأت تتأهب أمنياً وإنسانياً لهذا الاحتمال، لتدفع مختلف هذه التحديات المتلاحقة بالجيش التونسي إلى الواجهة بعدما تمّ تهميشه فترات طويلة. وشهدت المؤسسة العسكرية التونسية منذ إنشائها في العام 1956 حتى اليوم محطات هامة، على الرغم من التهميش الذي عاشته في فترة حكم الرئيسَين السابقَين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي. إلّا أنّها حظيت بعد الثورة باحترام المواطنين لدورها الفاصل في أحداث 14 يناير/ كانون الثاني 2011، تاريخ مغادرة الرئيس المخلوع البلاد. كما ساهم الجيش في عملية الانتقال الديمقراطي في تونس، من خلال تأمين الانتخابات بعد الثورة، عبر انتخاب الرئيس السابق المنصف المرزوقي أولاً في العام 2011 من خلال المجلس التأسيسي ثم انتخاب الرئيس الحالي الباجي قائد السبسي في عام 2014، فضلاً عن توليه تأمين الانتخابات التشريعية وحراسة مؤسسات الدولة، قبل أن تلقى على عاتقه مهمة إضافية أخيراً في حربه الحالية ضد الإرهاب. وصنّف الجيش التونسي، أخيراً في المرتبة الـ7 عربياً و58 عالمياً، بحسب موقع "غلوبال فاير باور" Global Fire Power، المهتم بالشؤون العسكرية وتصنيف أقوى 10 جيوش عربية ومكانتها عالمياً.يتألف الجيش التونسي من 80 ألف عنصر بمختلف رتبهم. كما يشارك في عمليات مدنية وطنياً ودولياً، إلى جانب المشاركة في عمليات حفظ السلام تحت غطاء الأمم المتحدة.في هذا السياق، تؤكد أستاذة علم الاجتماع العسكري، رئيسة مركز الأمن الشامل في تونس، بدرة قعلول أنّه "لا يمكن الحديث عن المؤسسة العسكرية التونسية من دون ذكر ظروف تأسيسها عام 1956، على النمط الفرنسي، باعتبار أنّ معظم المجموعة التي تمّ انتدابها بعد الاستقلال تكوّنت في فرنسا ومنها تأسست اللبنة الأولى للجيش التونسي، وفقاً لقعلول.وتضيف أستاذة علم الاجتماع العسكري، أنّ "بورقيبة أراد لهذه المؤسسة أن تكون منفتحة على كل أرجاء العالم، خصوصاً الغربي. أبرم اتفاقيات عدة مع فرنسا، والتي على إثرها بدأت مرحلة بناء المدارس العسكرية، ومؤسساتها. ومن هنا، نستطيع القول إن الجيش التونسي بدأ يشق طريقه الذي رُسم له، خصوصاً أن بورقيبة استغله لبناء الدولة وجعل دوره مدنياً بامتياز، لأن بورقيبة انتهج سياسة الحياد الخارجية. وفي مرحلة تأسيس وبناء الدولة بعد الخروج من الاستعمار، أوكلت مهام للجيش الوطني على غرار بناء السكك الحديدية، وبناء الطرقات، وحتى العمل في الفلاحة"، على حدّ تعبيرها.وتلفت قعلول إلى أنّ "هذه الأسباب أعطت للجيش حضوره لدى الشعب لغاية العام 1962. تغيّرت بعد ذلك، كل المعطيات بمؤامرة قادها بن علي وعدد من الأمنيين، وبعض المدنيين الذين خططوا للانقلاب على الحبيب بورقيبة"، على حد قولها. وتضيف "بعدما حظيت المؤسسة العسكرية بامتيازات كبيرة من طرف الرئيس آنذاك، سحب البساط من تحتها، ودخلت في مرحلة التهميش إلى حين بداية الثورة التونسية أواخر العام 2010". تستذكر أستاذة علم الاجتماع العسكري ما قاله الرئيس الراحل بورقيبة عن الجيش في عبارة "لا يجب دخول أي عسكري إلى الحياة السياسية، ولا يجب أن يتقلد مناصب سياسية". على عكس بورقيبة، بحسب قعلول، جاء بن علي مخالفاً لهذا القول، إذ شغل الأخير قبل توليه الرئاسة التونسية، منصب رئيس الاستخبارات العسكرية، ثم مدير عام أمن في وزارة الداخلية، ووزيراً للداخلية. وبعد ذلك، تعاظم طموحه وانقلب على الرئيس بورقيبة، وقاد الانقلاب بمعاونة أمنيين من الداخلية وليس عسكريين"، وفقاً لها. وتشير قعلول إلى أنّ "بورقيبة اعترف بخطئه الأول عندما ساهم في تعظيم شأن المؤسسة العسكرية إلى حدود المؤامرة عليه. ويكمن الخطأ الثاني في إعطاء عسكري، وقصد بورقيبة بذلك بن علي، منصباً سياسياً". وبحسب قعلول، "اعتمد بن علي سياسة بورقيبة في إبعاد العسكريين عن الحياة السياسية، وواصل تهميش المؤسسة العسكرية مع إعطاء أكثر امتيازات لوزارة الداخلية على حساب الجيش، لتمرّ المؤسسة العسكرية في عهد بن علي بمحطات هامة عدة ساهمت في إضعافها بشكل متزايد". وكانت أهم هذه المحطات، بحسب قعلول، تلك التي عُرفت بأحداث "براكة الساحل"، في العام 1992، إذ حاول بعض العسكريين المحسوبين على الإسلاميين الانقلاب عليه، لكنه "حطّم طموحهم بتلفيقه التهم للبعض منهم في قضايا عدة". وتمكّن بن علي من السيطرة على زمام الأمور، وواصل تهميش المؤسسة العسكرية التي أصبحت في عهده" مشلولة، وبات همّ قادتها مصالحهم المادية والمهنية لا غير"، وفقاً لأستاذة علم الاجتماع العسكري.تعمّقت أزمة المؤسسة العسكرية بعد سقوط طائرة على متنها عدد من القادة العسكريين الكبار في محافظة باجة (شمال تونس) في أبريل/نيسان 2002، والتي اتُّهم فيها بن علي بقتلهم، في حين أشارت نتائج التحقيق إلى أن سقوطها ناتج عن خلل تقني. بعد هذه الحادثة "أدرك الجميع الدرس وأصبح الجيش أكثر انغلاقاً على نفسه"، وفقاً لأستاذة علم الاجتماع العسكري. وتوضح قعلول أنّ "ميزة الجيش التونسي، ابتعاده عن التجاذبات السياسية، ساهمت في تكوين أجواء من الثقة بين هذه المؤسسة والمواطن. وواصل الجيش التونسي حياده بعد الثورة بعدم دخوله في التجاذبات السياسية. وساهم في أن تكون ثورة هادئة تمثل نموذجاً ويسهل تصديرها لبلدان أخرى على غرار مصر، وليبيا وسورية"، على حدّ تعبيرها.ترى أستاذة علم الاجتماع العسكري أنّ "المؤسسة العسكرية استُنزفت طاقاتها البشرية بعد الثورة في حراسة مؤسسات الدولة، وفرض حالة الطوارئ، ما جعل حربها ضد الإرهاب، اليوم، أصعب". لكنها ترى أن "الجيش التونسي يجد نفسه للمرة الأولى بعد الاستقلال في مواجهات ميدانية، وحرب شوارع مع عناصر إرهابية، وربما نستطيع القول إن حادثة بنقردان، أخيراً، هي بداية الحرب"، بحسب قعلول. وترجح أن يخوض معارك أخرى، "وبالتالي يمكن القول إن الجيش انتصر في أولى معاركه، وربما تشهد السنوات الخمس المقبلة تغييراً في تركيبة ودور المؤسسة العسكرية في تونس"، على حدّ تعبيرها.من جهته، يتفق الخبير في الشؤون العسكرية فيصل الشريف مع ما قالته قعلول، ويؤكد أن "الجيش ابتعد عن معترك الحياة السياسية في تونس، وكان ذلك توجهاً عاماً منذ تأسيسه في فترة ما بعد الاستقلال بسبب خشية بورقيبة من الانقلابات". ويوضح أنّ "بن علي كان من أبناء المؤسسة العسكرية، لكن عندما نصبه بورقيبة مديراً عاماً في وزارة الداخلية ثم وزيراً للداخلية سعى لتعزيز دورها على حساب الجيش"، مضيفاً أنّ "المؤسسة العسكرية نبذته لأنه نبذها"، على حدّ تعبيره. ويؤكد الشريف أنّ "عقيدة الجيش التونسي هي احترام الجمهورية والخضوع للسلطة السياسية، في حين أنّ معظم الدول العربية تقوم جيوشها بدور فاعل في الحياة السياسية لصالح طرف دون آخر".على صعيد متصل، نشر موقع مركز "كارنيغي للشرق الأوسط"، مقرّه في لبنان، بتاريخ 24 فبراير/شباط الماضي، دراسة هامة حول موقع ومكانة الجيش التونسي بعد الثورة تحت عنوان، "ثورة هادئة: الجيش التونسي بعد بن علي". تناول الباحث الأميركي شاران غربوال من جامعة برينستون، في هذه الدراسة، عودة الجيش في تونس ليكون له موقع في الانتقال الديمقراطي الحالي، بعدما تمّ تهميشه طيلة فترة بورقيبة، وخليفته بن علي الذي قامت عليه ثورة 2011. ويخلص غربوال إلى القول، إنه بعد فترة من تهميش المؤسسة العسكرية في تونس، يبدو أن تطورات ما بعد ثورة 14 يناير/كانون الثاني 2011 "تهدف إلى تصحيح ذلك الخلل التاريخي". وهنا، يناشد الباحث الدول الغربية والدولية بضرورة "أن تحرص على تشجيع نمو الجيش التونسي تماشياً مع المبادئ الديمقراطية".!!
تونس..تونس : الجيش التونسي: من التهميش إلى الانتصارَ!!
31.03.2016