شكّل الثالث من نوفمبر/ تشرين الثاني 2016، نقطة تحول جذرية بالنسبة إلى الاقتصاد المصري بشكل عام، ومعيشة المواطن بشكل خاص، إذ أعلنت الحكومة قرارها بتحرير سعر صرف العملة المحلية مقابل العملات الأجنبية، ما عُرف بـ"تعويم الجنيه". وكان قرار تحرير سعر العملة جزءا من برنامج اقتصادي اتفقت عليه مصر مع صندوق النقد الدولي في سبيل الحصول على قرض بقيمة 12 مليار دولار، إلا أنه في يناير/ كانون الثاني من 2017، قال رئيس بعثة مصر في صندوق النقد الدولي كريس جارفيس، إن قيمة الجنيه المصري انخفضت أكثر من المتوقع بعد تعويم سعر الصرف، مشيراً إلى أن السكان يمكن أن يستفيدوا على المدى الطويل من الإصلاحات والتعويم، لكن الفقراء سيعانون بشكل كبير.انقلب حال الملايين من المصريين منذ ذلك التاريخ، فمن كان راتبه الشهري 1200 جنيه (الحد الأدنى للأجور) يساوي 150 دولاراً أميركياً، أصبح يساوي 66 دولاراً فقط. وأثّر قرار التعويم في الأسعار ومعيشة المواطنين بشكل كارثي، وهو الأمر الذي حذر منه الاقتصاديون عند اتخاذ القرار قبل عامين، وخصوصاً في ظل اعتماد مصر على استيراد احتياجاتها الأساسية من الخارج بالعملة الصعبة.وتضمن البرنامج سلسلة من الإجراءات التقشفية التي أدت إلى زيادة أسعار المستهلكين (المؤشر الرئيس للتضخم). ورغم وعود الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وحكومته آنذاك بعدم تأثر الفئات محدودة الدخل بما تصفه الحكومة ببرنامج الإصلاح الاقتصادي، إلا أن الواقع جاء عكس ذلك، إذ شهدت مصر موجات غلاء طاحنة ومتتالية، ووصل التضخم إلى مستويات قياسية لم يصل إليها منذ 30 سنة بعد أن تجاوزت نسبته 30% العام الماضي. وزادت مصر بالفعل أسعار الوقود والكهرباء والنقل، لتلبية شروط اتفاق القرض مع صندوق النقد الدولي، وهو ما أدى إلى احتجاجات نادرة في شهر مايو/ أيار الماضي شارك فيها ركاب غاضبون من ارتفاع أسعار تذاكر مترو الأنفاق، وأدت إلى اعتقال بعضهم. قفزّ الدين المحلي والخارجي إلى معدلات قياسية، وقال مصرفيون وخبراء اقتصاد إن عوائد أذون وسندات الخزانة المصرية (أدوات دين حكومية) ارتفعت لأعلى مستوياتها في عام في يوليو/ تموز الماضي بفعل تخارجات (عمليات بيع للمستثمرين) بقيمة بين 4 و5 مليارات دولار من سوق الدين في البلاد، في إطار موجة بيع عالمية في الأسواق الناشئة.وزاد الاستثمار الأجنبي في أذون وسندات الخزانة المصرية منذ تعويم الجنيه في أواخر 2016، ليرتفع من أقل من مليار دولار في ذلك الوقت إلى أكثر من 23 مليار دولار في نهاية مارس/آذار الماضي، بحسب أحدث بيانات متاحة، مما أتاح للبلد المعتمد على الاستيراد مصدراً حيوياً للعملة الأجنبية، لكنه زاد في الوقت ذاته من حجم الدين الخارجي.وبحسب النشرة الإحصائية الشهرية التي يصدرها البنك المركزي المصري، فإن مقارنة البيانات الأساسية قبل التعويم وبعده وبخاصة بيانات الديون المحلية والخارجية، تُظهر أن إجمالي الدين الخارجي في الربع الأول من العام المالي 2015/2016 كان نحو 45.75 مليار دولار، وذلك بحسب النشرة الصادرة في يناير/ كانون الثاني 2016 قبل عشرة أشهر من التعويم.
كما تُظهر أن الدين المحلي سجل في سبتمبر/ أيلول من العام المالي نفسه 2.25 ترليون جنيه، وذلك عندما كان سعر صرف الدولار (بنحو 8 جنيهات).وبحسب النشرة الإحصائية الشهرية للبنك المركزي في يناير/ كانون الثاني 2018، ارتفع إجمالي الدين الخارجي في الربع الأول من العام المالي 2017/2018 إلى نحو 80.8 مليار دولار، نصيب كل فرد منها 771.2 دولارا، قبل أن يقفز مجددا بحسب نشرة أكتوبر/ تشرين الأول 2018 إلى 92.64 مليار دولار، كما قفز الدين العام المحلي إلى 3.69 ترليونات جنيه.القراءة في مؤشرات صندوق النقد الدولي قبل التعويم وبعده، تقدم أيضاً نتائج سلبية عن الاقتصاد المصري بسبب تحرير سعر الصرف، ففي تقرير لصندوق النقد الدولي صادر قبل التعويم بنحو سبعة أشهر وتحديداً في إبريل/ نيسان 2016 بعنوان (آفاق الاقتصاد العالمي: بطء شديد لفترة بالغة الطول)، جاء أن إجمالي الناتج المحلي لمصر زاد في عام 2015، ووصل إلى 4.2%، وتوقع التقرير أن يصل إلى 4.3% في 2017.وبحسب التقرير نفسه، فإن أسعار المستهلكين (المؤشر الرئيسي للتضخم) في مصر كانت 5.1% في الفترة من 1998-2007، وصل إلى 11% في العام 2015، متوقعاً أن تصل إلى 10.4% في 2017.لكن تقريرا آخر للصندوق بعنوان (آفاق الاقتصاد العالمي: هل يتزايد الزخم) صدر في إبريل/ نيسان 2017، أي بعد قرار التعويم في مصر، خفّض توقعاته للنمو في 2017 إلى 3.54%، وفي 2018 إلى 4.5%. وجاء في التقرير أن التضخم في 2016 وصل إلى 10.2%، متوقعاً أن يصل في 2017 إلى 22%، وفي 2018 إلى 16.9%.ويؤكد أحد خبراء الاقتصاد البارزين في مصر، أن انخفاض الناتج المحلي الإجمالي المصري أول من سيدفع ثمنه هو المواطن البسيط، مشيراً إلى أنه بإجراء مقارنة بين قيمة الناتج المحلي الإجمالي مقدراً بالدولار، في قاعدة بيانات تقرير مؤشرات التنمية في العالم الخاصة بالبنك الدولي، قبل التعويم وبعده، تؤكد أنه انخفض من 332.5 مليار دولار، إلى 236.5 مليار دولار عام 2017، كما تشير التقديرات إلى أنه سيبلغ 249.5 مليار دولار عام 2018، ولن يعود لمستوى عام 2016 إلا في عام 2020، مؤكداً أن انخفاض الناتج المحلي الإجمالي يعني تلقائياً انخفاض متوسط نصيب الفرد منه.ورغم أن السيسي وأعضاء من حكومته أكدوا في أكثر من مناسبة أن الإصلاحات الاقتصادية لن تؤثر في المواطن البسيط إلا أنه لمّح في وقت سابق من نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، إلى أن الموظفين الحكوميين قد لا يحصلون على العلاوة الدورية هذه السنة، مبرراً ذلك بحاجة الحكومة إلى أموال لبناء فصول جديدة في المدارس المكتظة بالطلاب.وقال السيسي في منتدى شباب العالم بمنتجع شرم الشيخ على البحر الأحمر، إن هناك حاجة لبناء 250 ألف فصل تتكلف 130 مليار جنيه (7.3 مليارات دولار). وتابع: "التحدي ده تحدي كبير... قولولي أعمل إيه؟ أحلها إزاي؟".وذكر السيسي أنه يجب على الحكومة أن تجد حلا، مضيفا: "هقول كلام صعب. خصّموا من الوزارات كلها. أقول كلام أصعب. مش هنطلع علاوة دورية السنة دي للموظفين في مصر".وقال: "قالوا لي علشان نطوّر التعليم عايزين 250 ألف فصل بتكلفة 130 مليار جنيه، مش كدة يا دكتور (وزير التعليم، طارق شوقي)، مش كدة يا دكتورة (وزيرة التخطيط، هالة السعيد)، طيب أجيب منين يا مصريين، أدبرهم إزاي، قولوا لي إنتم أعمل إيه حطوا نفسكم مكاني، التلات أربع سنين اللي هيخلص فيهم الموضوع ده، وده إيه أسمنت وطوب بس، غير المعلمين ندربهم وكده، أنا قولت إيه يا دكتورة، بلغوا كل الوزارات مافيش علاوة دورية للموظفين تاني لحد ما نخلص من الحكاية دي، اللي عايز يتطور لازم معاناة وأسى".ويحصل الموظفون الحكوميون في مصر على زيادة في الرواتب في نهاية كل سنة مالية، والتي تبدأ في الأول من يوليو/ تموز وتنتهي في 30 يونيو/ حزيران.وبموجب الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، حررت مصر سعر صرف عملتها الجنيه، مما أدى لانخفاض قيمتها، وترفع الدعم تدريجيا عن الوقود، وهو ما يفرض ضغوطا على حياة عشرات الملايين من المصريين، المطحونين بالغلاء.ومن المتوقع أن يواصل الجنيه تراجعه، ما يفاقم من الظروف المعيشية لملايين المصريين.وتوقعت شركة "أرقام كابيتال" في تقرير لها في وقت سابق من الشهر الجاري خفضا تدريجيا في سعر صرف الجنيه أمام الدولار، ليسجل 18 جنيها نهاية العام المالي الحالي 2018/2019، بينما يجري تداوله حاليا عند نحو 17.86 جنيها، ليصل إلى 19 جنيهًا بنهاية العام المقبل و20 جنيهًا بنهاية العام 2020، وذلك على خلفية تدهور سعر الصرف الحقيقي الفعال وفي أعقاب عامين من التضخم المرتفع.ورجحت "أرقام كابيتال" أن يضخ البنك المركزي المصري سيولة دولارية للبنوك التجارية، لتعويضها عن تراجع أصولها الأجنبية، ولضمان استدامة السيولة الأجنبية لديها.وبينما يظل الدولار عند مستوياته المرتفعة، تتصاعد بشكل كبير كلفة المشروعات الحكومية وفوائد الديون، بينما تسير الحكومة في اتجاه واحد يتمثل في فرض المزيد من الزيادات في أسعار السلع والخدمات على المواطنين.وبحسب إعلان لمجلس الوزراء نهاية أكتوبر/تشرين الأول الماضي، فإن الحكومة ستطبق زيادة جديدة في أسعار الكهرباء للاستهلاك المنزلي والتجاري، اعتباراً من فواتير أول يوليو/تموز المقبل، بذريعة محاولة سد الفجوة بين السعر الذي تُباع به، والتكلفة الفعلية، وفاءً لالتزامات الدولة.وتستهدف الحكومة تحرير أسعار الكهرباء نهائياً، في إطار سياسة رفع الدعم الحكومي المقدم للخدمات العامة كالمياه والكهرباء والصرف الصحي، وكذا خفض الدعم المقدم للسلع الرئيسية كالمشتقات البترولية بكل أنواعها، بما فيها غاز الطهي المخصص للمنازل، والمشتقات البترولية الأكثر شعبية مثل السولار وبنزين (أوكتان 80)، المخطط استبداله قريباً ببنزين (أوكتان 87) مع رفع سعر بيعه.وبداية من فواتير استهلاك الكهرباء عن يوليو/تموز الماضي، رفعت الوزارة أسعار الكهرباء للمرة الخامسة على التوالي منذ قفز السيسي على كرسي الحكم عام 2014.وإلى جانب الزيادات المتلاحقة للأسعار، تستهدف الحكومة تقليص عدد الموظفين في القطاع الحكومي بنسبة كبيرة
وكشف رئيس الوزراء مصطفى مدبولي الشهر الماضي، خلال اجتماع للغرفة التجارية الأميركية في القاهرة، الشهر الماضي، عن أنه يعمل على إعادة هيكلة للحكومة، تتضمن تخفيض عدد مجلس الوزراء وموظفي القطاع العام، موضحا أن "38% على الأقل من الموظفين في القطاع العام سيحالون إلى التقاعد في السنوات العشر القادمة".وتظهر البيانات الرسمية الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء (حكومي)، أن عدد العاملين في القطاع الحكومي يبلغ حاليا نحو 5 ملايين موظف، الأمر الذي يجعل عدد من سيحالون إلى التقاعد، وفق النسبة التي تحدث عنها رئيس الوزراء، يبلغ نحو 1.9 مليون موظف!!.
القاهرة..مصر : عامان على "تعويم" الجنيه... فقراء مصر يدفعون الثمن!!
08.11.2018